وكأني بأهل هذا الزمن قد ترسخت في أغلبهم، عقلية اعتبار السياسة كذبا، وجميع من انخرطوا في العمل السياسي كذابين، ولا يمكن بأيّ حال تصديق سياسي أو تبرئته مما ينسب عامة لأهل السياسة، وهذا خطأ يجب تصحيحه، على أساس أن السياسة أسلوب مُتّبع في قيادة المجتمعات وفق القانون، سواء كان هذا القانون إلهيّا، وهو نادر لا يكاد يذكر، أو بشري ألّفته تفاهمات معينة، جاءت على أثر إستقلال أو ثورة، سواء كانا حقيقيين، أم مجرد إيهام للشعوب المستهدفة من الدول الغربية، وهذا ما هو واقع حقّا على ساحة السّياسة العالمية.
والسّاسة الموسومين بالكذب والمشهورين به، على أنّه اسلوب مراوغة تصبّ في مصالحهم، ليسوا أصحاب جنسيّة معيّنة، بل هم خليط من جنسيات مختلفة، كذبوا أوّلا على شعوبهم، بإخفاء حقائق عنهم، أو نتائج اتصالات خارجية محاطة بالتكتّم، أو ابرام صفقات سرّية، مع دول استعمارية وشركات متعددة الجنسيات، كما هي شأن صفقات النفط والغاز والمناجم، التي بقيت طيّ الكتمان، وآخر من تعلم بها الشعوب، بل لعلهم لا يعلمون بها من الأساس، إلى أن تذهب بذهاب مصالح منتفعيها المخادعين.
أوّل الكذّابين هي أمريكا، وبها بدأ اتباع نهجها الكذب على شعوبهم تأسّيا بها، كأنما الكذب مادّة تسير بها سياسة العالم الغربي، وهو قدوة مستعمراته من الدول الضعيفة، ومن خلال تاريخها المعاصر – لأنها بلا تاريخ قديم ولا يمكن أن تستمرّ على هذا النّحو- ظهر منها كذب مستشرى أثبت أنّ سيرتها مستنسخة من الشّيطان – الذي قاسم أبانا آدم وأمّنا حوّاء أنّه من النّاصحين لهُما – كأنّها تريد أن تؤكّد وصف الإمام الخميني رحمه الله لها بأنها الشيطان الأكبر(1)، بمعنى أنّها فاقت الشيطان الأوّل حيلة وخبثا ومكرا ودهاء، وقد بلغ بها الحال أن أصبح شعبها يصدّق ساسة حكّامه، في جميع ما يصوّرونه لهم، وكأنّي بالشعب الأمريكي قد أصبح أسير دعاياتهم المفرطة في تزوير الحقائق، ورهين مقالاتهم البعيدة عن الواقع.
ومتى صدقت أمريكا، أو كانت في جهد واحد من جهودها، تريد الخير لغيرها من الشعوب، حتى أصبحنا ننظر إليها أنها بسياستها التمييزية، تلحق الضرر داخلها بأعراق شعبها، بعدما كادت تبيد عرق أصحاب الأرض، التي استوطنها العرق الأبيض الأوروبي، القادم إليها في بداية تأسيس، قام على دماء وجثث الهنود الحمر، كما سمّوهم من قبل، تحقيرا لشأنهم واستخفافا بعرقهم.
وأمريكا التي عبثت بدول وشعوب عديدة من مختلف القارات، من أجل أن تبقى قطبا وحيدا، مسيطرة ومؤثرة في سياسات دول العالم، مستغِلّة لمقدّراتها، فارضة منطقها التعسّفي الظالم، بحق شعوب خارجة عن طوعها، ومتمرّدة عليها، مستغِلّة تفوّقها أسوأ استغلال.
ولا يهُمّ أمريكا إن كان كذبها مفضوحا بلا أدلّة، يكفي أن تكذب من أجل قلب حقيقة، فتتّبعها دول الغرب ومعهم أستراليا، والدليل على ذلك تحريضها على العراق، وشنها حربا مدمّرة على شعبه، بدعوى امتلاكه أسلحة دمار شامل، وجاء استدراجها للنظام العراقي بدخول الكويت، كفخ فتح لها باب إشعال حرب مدمّرة، القصد منها تدمير العراق، من أجل أن لا يكون رافدا للتمهيد المبارك، الذي بدأته الثورة الاسلامية الإيرانية.
وبنفس أسلوب الكذب والخداع، ادّعت الإدارة الأمريكية على النظام السوري، إستخدام جيشه الأسلحة الكيماوية ضد شعبه أكثر من مرّة، دون دليل على ذلك فبركات من صنع الإرهابيين أنفسهم، وتدبير (الخوذ البيضاء)(2)، إحدى أذرع الدعاية الغربية الكاذبة في مناطق سيطرة المجاميع السّيئة الذّكر، التي قاموا بتدريبها في تركيا وإدخالهم من هناك، وتجميعهم في الداخل السوري على شكل فرق، اكتوى بإجرامها الشعب السوري، ولا تزال اليوم بقيتهم في البادية السورية، وفي محافظة إدلب شمالي سوريا، محميّة من أمريكا وتركيا، ليتناقض كلام جون كيري وزير خارجيتها الأسبق الذي قال:
(ثمة أدلة على أن الأسد نسق مع عناصر “داعش”، واستعملهم كأدوات لإضعاف المعارضة، لم يسيطر أبدًا على مواقعهم وممتلكاتهم التي كانت واضحة ومعروفة، لذا نحن لا نثق بما إذا كان الأسد قادرًا أو لديه النية في السيطرة على داعش”.)(3) مع اعترافات هيلاري كلينتون بأن ادارتها هي التي صنعت الجماعات الارهابية في المنطقة.(4)
قضية الإيغور كذبة أمريكية أخرى، لفقتها دعاياتها من أجل التحريض على الصين والإساءة إليها، وقضايا أخرى هي قطْعا جاهزة، لترمي بها الإدارة الأمريكية شعوبا رافضة دخول بيت دعارتها، وغير مستعدّة للتنازل عن مبادئها في الكرامة والشّرف، وقائمة هذه الدّول بدأت تكبر في أمريكا اللاتينية ككوبا وفنزويلا ونيكاراغوا وبوليفيا، وآسيا وتحديدا الصين وايران وكوريا الشمالية، وأوروبا أقصد هنا روسيا الاتحادية والبيضاء، ومن غير المستبعد أن يتفكّك ناتو أمريكا ليصبح خاصا بأوروبا، خاليا من غطرسة أمريكية/ تجاوزت صلاحية قيادة أوروبا والعالم.
لا يبعد أردوغان عن الساسة الكذابين، بل لعله من بين المتفوقين الأوائل في مجال الكذب، والتلوّن بألوان الخداع والخبث، فهو من جهة يحاول أن يظهر في الجانب الحقوقي، المدافع عن الشعب الفلسطيني المظلوم، وقضية تحرر أرضه من العصابات الصهيونية، ويحاول أن يظهر بمظهر معارضة الكيان الصهيوني في سياساته العدوانية والقمعية للشعب الفلسطيني، لكنّه في كل مرّة ينكشف على حقيقة، كونه لا يزال محافظا على علاقة متينة بالكيان الصهيوني، غير قابلة للقطع من أجل فلسطين ولا حتى من أجل أن الصهاينة من أعدى أعداء الإسلام، فما يراه أردوغان أولوية بالنسبة له ولحكومته هو مصلحة تركيا فقط، ولو على حساب قضايا العرب والمسلمين جميعا.
إلى من قدّم رئيس تركيا على أنه الخليفة العثماني للمسلمين، نقول له حاول أن لا تتعامى عن سياسته المتينة مع الكيان الصهيوني، فقادة بلاده الأوائل كانوا السبّاقين لمدّ جسور العلاقة مع هذا الكيان، ومضى هو على نهجهم، كأنّه قدر مقدور على تركيا، أن تكون على طرف نقيض مع أشقائها المسلمين، في مقاطعته ورفض أي علاقة معه.
ولن تفلح حكومات خاضت في أبحُر الكذب ومغالطة شعوبها، باتّباع السياسة الأمريكية كنموذج فائق في المراوغة والخداع، اعتبروه صالحا للقيادة، بينما هو سلوك غير أخلاقي، ليس بمقدوره أن يقدّم شيئا، ومآله الخسران وفقد ثقة الشعوب، بمجرّد انكشاف تلك الأكاذيب، ومزالق الشيطان تبدأ بالكذب دائما، لتنتهي بالخطيئة الكبرى بحق الشعوب وهي خيانتها، وعبث أمريكا بمستقبل الشعوب المستضعفة لن يتوقف الا بانتهائها وخلاص هذه الشعوب منها، لكن كيف ومتى ؟ سؤال في بطن الغيب سيكشف عن سرّه الزّمن والشعوب التي لا تقبل الضّيم المذلّة.
المصادر
1 – أمريكا الشيطان الأكبر https://al-vefagh.ir/News/333401.html
2 – انكشاف حقائق صادمة عن “الخوذ البيضاء”
https://arabic.sputniknews.com/20180316/1030806758.html
3 – يكشفها صبيّ .. كيف تكذب أمريكا لتدمير الشعوب؟ https://www.mobtada.com/cases/721498
4 – ترامب: أوباما “مؤسس” تنظيم “الدولة الإسلامية”
https://www.bbc.com/arabic/worldnews/2016/08/160811_trump_obama_clinton