يأمل كثير من حلفاء الولايات المتحدة أن تدفع العقوبات الأمريكية الجديدة على إيران نحو حرب غربية على الجمهورية الإسلامية تنتهي بإسقاط النظام السياسي فيها والى الأبد. بعضهم يعلن صراحة ذلك مثل إسرائيل. في حين يحتفل آخرون بسريان العقوبات، مبررين الإجراءات الجديدة بأنها ضرورية لحمل إيران على أن تكون دولة جارة مفيدة ومستقرة وهادئة. فإيران دولة راعية للإرهاب وتمعن في تدخلها السّافر في الشؤون الداخلية للدول العربية وتهدّد استقرار الدول المجاورة. لهذه الأسباب وغيرها تدافع الدول المنخرطة في المشروع الأمريكي عن العقوبات ضد إيران.
ترامب لا يذهب بعيداً عن هذا المنطق حين يرافع أمام المجتمع الأمريكي والعالم عن مشروعه ضدّ إيران. فلماذا لا ينخرط العالم لا سيما “الحر” منه في هذه العقوبات التي تحمي العالم من الشرور الإيرانية؟!.
وإذا عدنا إلى السّرديات المنمّطة عن إيران، نجد أنها محصورة في نشرها التشييع والتشجيع على الإرهاب ودعم الحركات الموصوفة بالتطرف، مثل: حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين أو تأسيس أحزاب وفيالق عسكرية لها خارج بلادها مثل: حزب الله في لبنان، وعشرات الميلشيات المسلحة في العراق أو أنها تسعى إلى زعزعة استقرار الدول الخليجية.
يُفترض أن تكون الدول أكثر تضرراً، والأقل محاباة لإيران هي الدول الأوروبية (بريطانيا، ألمانيا، وفرنسا)، إلى جانب روسيا وتركيا. فلو كان الأمر مرتبطاً بأيديولوجية متطرفة تسوّقها إيران في المنطقة والعالم وتهدّد من خلالها السلم والأمن الدوليين، لكان الأجدى بالأوروبيين والصين وروسيا مواجهتها كونها قد تهدد القيم العالمية. ولو كانت تنشر التطرف الديني في محيطها وتسعى لتشييع العالم السنّي، لكان حريّ بكل من أنقرة وإسلام أباد المجاورين لها أن يفزعا وينخرطا بقوة في العقوبات الأمريكية. وهي فرصة سانحة للدول الأوروبية أيضاً للتخلص من عبء اللاجئين الوافدين إليها من أتون الحروب في الشرق الأوسط، والتخلص وللأبد من تسلل القاعدة وأخواتها إليها عبر الحدّ من نشاط إيران الداعم للإرهاب في العالم.
عشرات الاتهامات التي تكال لإيران بشكل دائم. والى جزء منها استندت الولايات المتحدة في تبرير تنصلها من الاتفاق النووي الموقع بين الدول الست وإيران بعد مشاورات ولقاءات استمرت سنوات.
لم يتهم أيّ من الدول الخمس الموقعة على الاتفاق النووي إيران بالتنصل من التزاماتها الموقعة في الاتفاق الدولي. وباستثناء الولايات المتحدة، لا أحد من الدول الكبرى قال: إن الاتفاق الموقع معها غير مناسب للمجتمع الدولي.
ما يصحّ قوله إن من خرج عن التفاهم الدولي من الاتفاق النووي وتنصل منه هي الولايات المتحدة وليست إيران.. الولايات المتحدة التي كانت أول من وقع على تلك التفاهمات في عهد أوباما.. كان الإيرانيون صائبين في قولهم: إن الولايات المتحدة لا تحترم كلماتها ولا تفي بتعهداتها.. مصالحها الخاصة هي من تحركها.
اليوم تقف الولايات المتحدة ضد إيران والهدف حملها على توقيع اتفاق جديد يكون أكثر صرامة من الاتفاق السابق. والسؤال البديهي لو افترضنا جدلاً أن إيران رضخت لمطلب الرئيس ترامب وخاضت مفاوضات جديدة ووقعت اتفاقاً جديداً حول برنامجها النووي ما الذي يضمن لإيران انه إذا جاء رئيس أمريكي جديد بعد انتهاء ولاية ترامب قد لا يتنصل بدوره من الاتفاق ويعيد نفس الاتهامات لإيران ويحملها على التوقيع على اتفاق آخر؟.
السلوك الأمريكي في الاتفاق النووي مع إيران كشف عن حجم استخفاف واشنطن بالعهود الدولية والتحايل عليها واختلاق الذرائع تلو الذرائع لفرض هيمنتها وسيطرتها على القرار الإيراني. ولا صحة لادعاءاتها بضرورة فرض العقوبات للحفاظ على السِّلم الدولي.
بالمقارنة بين السلوك الامريكي المتذبذب ونظيره الايراني نجد القادة في إيران ذهبوا ابعد من التعهد الدولي بعدم تصنيع السلاح النووي.. المرشد الإيراني السيّد علي خامنئي وعدد المراجع الدينية حرمّوا إنتاج واستعمال السلاح النووي. والفتوى كما هو معلوم لا تخضع لاعتبارات المصالح السياسية والظروف الدولية بقدر ما هي تحمل صفة الديمومة والثبات. بمعنى آخر صدور الفتوى هو تأكيد على قناعة دينية لدى إيران وليس إذعانا ناتج عن ضعف المقاومة الإيرانية أمام الضغوطات الدولية المتزايدة عليها.
الهدف الحقيقي من العقوبات هو استمرار إيران في تحدي الولايات المتحدة وتهديد مصالحها في المنطقة. هذا أمر مؤكد لدى الأميركيين والإيرانيين على السواء.. فقط في عالمنا العربي هناك من يجادل عن الولايات المتحدة ويعتقد أن الولايات المتحدة وإسرائيل ستقاتلان عنه إيران وتريحه من ضرورة الحوار معها بعيداً عن الوصاية الخارجية.
العقوبات والحصار المستمر على إيران منذ أربعين سنة لم يعزل إيران عن محيطها الإقليمي. ولم يضعف قوتها العسكرية، ولم يؤلب المجتمع الإيراني عليها.. ما نشهده اليوم يؤكد أن إيران أضحت أكثر حضوراً ونفوذاً في المنطقة. فهي رقم صعب لا يتصور تجاوزه في العراق وسوريا وفلسطين ولبنان واليمن.
إيران اليوم هي أكثر انتشاراً ونفوذاً من اي فترة سابقة منذ تأسيس الجمهورية. والتطوّر العسكري الذي تعيشه البلاد هو أكبر من أن تخطيؤه العين. فقد اقتربت إيران تماما من الاستغناء التامّ عن الخارج في احتياجاتها الداخلية والتصنيعية ولا سيما العسكرية منها. فهي متقدمة بأشواط على الدول العربية. وتكاد تضاهي تركيا وإسرائيل وربما تتفوق عليهما في بعض الميادين الصناعية العسكرية.
لم تفلح العقوبات سابقاً في تغيير الموقف الإيراني فهل عساها أن تفعل اليوم طالما أن القناعة الإيرانية منعقدة على أن المطلوب أمريكياً وإسرائيلياً وخليجياً هو رأس النظام وليس تعديل السلوك الإيراني.. في الحالة الثانية الأمر قابل للتفاوض والنقاش إيرانياً. وفي الحالة الأولى لا مجال للمساومة ولا للتفاوض المسألة هي بقاء أو فناء.