الصاروخ الذي أطلقته المقاومة الفلسطينية من قطاع غزة ودمر مبنيين في شمال مدينة تل أبيب، لا يمكن تقييمه من زاوية الخسائر المادية أو البشرية، التي أوقعها في صفوف الإسرائيليين، وإنما من كونه يشكل بداية مرحلة نوعية جديدة، سيكون لها وقع الصدمة في دولة الاحتلال وقادتها، لأنه يسجل تآكل منظومة الردع الإسرائيلية الممثلة في القبب الحديدية أولا، وحدوث تطور نوعي غير مسبوق في سلاح الصواريخ الفلسطيني، جاء انعكاسا لإبداع العقول الفلسطينية التي تقف خلف تطوير قدراته التدميرية، ودقة إصابة أهدافه ثانيا.
شهر آذار (مارس) الحالي سيدخل التاريخ العربي على أنه شهر الجيل الجديد من الصواريخ التي لم تعد عبثية دون جدال، صواريخ باتت تضلل الرادات الإسرائيلية المتقدمة جدا، وتصل إلى أهدافها بدقة، مما يعني أن الأجواء باتت مفتوحة أمامها، ولم تعد البنى التحتية الإسرائيلية في مأمن، ونحن نتحدث هنا عن المطارات والموانئ وحتى مفاعل ديمونا النووي نفسه.
***
الصاروخ الجديد الذي حمل اسم ‘جعبري 80’، نسبة إلى الشهيد أحمد الجعبري الذي اغتيل عام 2012، وصل مداه إلى 120 كم، وانطلق من مدينة رفح جنوب القطاع، وتؤكد معظم التقارير الأولية أن وحدة الصواريخ في جناح كتائب القسام هي التي تقف خلفه، وإن كان المتحدث الرسمي باسمها لم يعلن ذلك رسميا، ونجزم بأنه سيحقق المصالحة لأبناء القطاع، وسيوحدهم جميعا خلف فصائل المقاومة.
بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير الدفاع في الوقت نفسه، وصف الهجوم بأنه ‘وحشي’، وتوعد بالانتقام، وقرر قطع زيارته للولايات المتحدة فور ختام لقائه مع الرئيس دونالد ترامب في حركة ‘مسرحية’ بواعثها انتخابية محضة.
هناك عدة احتمالات للانتقام الإسرائيلي على هذه الصدمة المروعة التي صاعدت منسوب القلق والرعب لدى المستوطنين الإسرائيليين الذين كانوا يعتقدون أنهم في مأمن، يمْكن حصرها كالتالي:
أولا: أن يعطي نتنياهو الضوء الأخضر للجيش بشن هجوم شامل على قطاع غزة وإعادة احتلاله، والقضاء نهائيا على حركات المقاومة فيه، وعلى رأسها حماس والجهاد الإسلامي، وهذا أمر مستبعد كليا بالنظر إلى الانسحابين الإسرائيليين المهينين من غزة وجنوب لبنان.
ثانيا: أن يلجأ نتنياهو إلى أسلوبه المعتاد، أي شن غارات مكثفة على القطاع وإحداث أكبر حجم ممكن من الأضرار المادية، ولكن بأقل قدر ممكن من الأضرار البشرية لتجنب رد انتقامي، والاستعانة بالوسيط المصري كصديق.
ثالثا: إحياء سياسة الاغتيالات لقيادات حركة المقاومة، وهي السياسة التي توقفت في الفترة الأخيرة بعد التوصل إلى اتفاقات التهدئة بوساطة مصرية.
نتنياهو لا يريد حربا قبل أسبوعين من الانتخابات الإسرائيلية، ولكنه وبسبب هذه الانتخابات، والمنافسة الشرسة التي يواجهها لا يستطيع إلا أن يرد، وإلا ظهر بمظهر القائد الضعيف والجبان في مواجهة مقاومة تتصاعد وتيرتها، لا تتمثل في صواريخ القطاع فقط، وإنما في العمليات الفدائية النوعية في الضفة الغربية التي كان آخرها عملية سلفيت البطولية.
أيا كان الرد، فإن هذا الصاروخ أفسد احتفالات نتنياهو وترامب، ومن خلفهما اللوبي اليهودي في واشنطن بفرض ‘الشرعية’ الإسرائيلية على احتلال هضبة الجولان المحتلة، وكشف عن إرادة عربية إسلامية قوية بالعودة إلى خيار المقاومة، وإفشال صفقة القرن بالتالي، هذا أكثر ما تخشاه القيادة الإسرائيلية التي اعتقدت أن العرب استسلموا بالكامل، وباتت بعض حكوماتهم المطبعة ترى فيهم حلفاء استراتيجيين.
نتنياهو الذي هرول إلى القاهرة طالبا وساطة الرئيس عبد الفتاح السيسي لوقف الجولة الأخيرة والثالثة من الحرب في قطاع غزة بعد 48 ساعة من سقوط 500 صاروخ وقذيفة في العمق الإسرائيلي، ربما يخرج الخاسر الأكبر من هذه الحرب، لأن حركات المقاومة سترد بقوة أكبر، وصاروخ الجعبري الذي أصاب تل أبيب مجرد رسالة تحذير لما هو قادم.
***
الشعب الفلسطيني بات أمام خيارين: الأول الموت جوعا، أو الموت شهيدا، ونجزم بأن خياره الثاني هو المرجح، دون أي تردد.
الإسرائيليون وبمساعدة بعض الحكومات العربية فرضوا حصارا تجويعيا على مليوني فلسطيني، مرفوقا بكل أنواع الإذلال والمهانة، ويتوقعون أن يقذفهم هذا الشعب بالأرز والرياحين، إنهم لا يعرفون هذا الشعب الذي لم يتوقف عن النضال منذ مئة عام على الأقل.
صاروخ تل أبيب قد يكون ‘فاتحة الشهية’ للطبق الأدسم الذي سيليه، وربما يدفع بملايين من الإسرائيليين إلى الملاجئ بحثا عن السلامة، وهذا في حد ذاته ثلاثة أرباع الانتصار، والأهم من كل ذلك أن هذا الرد الصاروخي سيشجع أطرافا أخرى على الرد الانتقامي على أي عدوان يستهدفهم، ونحن نتحدث هنا عن الأشقاء السوريين واللبنانيين والإيرانيين أيضا.
غزة والضفة تتعانقان بحرارة على أرضية مقاومة الاحتلال، بنهجين يكملان بعضهما البعض، ويلتقيان على أرضية واحدة وهي جعل الاحتلال الإسرائيلي أكثر كلفة بشريا وماديا.. والأيام بيننا.