بدأ الكيان الإسرائيلي يشعر بتقييد حركته نتيجة جملة معادلات وقواعد الإشتباك التي راكمتها المعارك وجولات المواجهة مع فصائل وأحزاب ودول محور المقاومة، إن كان على مستوى على الحدود الشمالية، أوفي الداخل الفلسطيني وقطاع غزة، ناهيك عن معاناته الداخلية وأزماته السياسية، التي تعكس الخلافات والإختلافات السياسية والإيديولوجية العنصرية – الداخلية، داخل مجتمعه العنصري أساساً، وتمييزاً ما بين متطرفيه، ومستوطنيه الغربيين والمشرقيين والأفارقة، أمورٌ لم يعد قادراً على إحتوائها، على الرغم من محاولاته الدؤوبة لتصدير أزماته الداخلية، وخوض الحروب أو المعارك، واللعب على وتر “أمن الكيان” لرص الصفوف ما أمكن، ومع ذلك كاد الداخل الإسرائيلي مؤخراً أن ينفجر بحربٍ أهلية، تزيد من همومه وهواجس وجوده وبقائه.
وبات ينتقل من إستراتيجيةٍ إلى أخرى خائفاً مرتبكاً، رغم صراخه وتهديداته المستمرة، التي “لم تعد تخيفنا” بحسب كلام سماحة السيد حسن نصر الله، وبات أكثر فأكثر بحاجةً إلى استراتيجية “الجدر الإسمنتية”، واستراتيجية النزول إلى “الملاجئ وتكديس المؤن”، واستراتيجية رسائل “المنشورات”، فلم تعد منشوراته تسعى للوصول إلى أيدي أعدائه فقط، بل بات يرسلها إلى مستوطنيه أيضاً.
وقد أثار المنشور الإسرائيلي الذي ُوزع مؤخراً على رؤساء المستوطنات والمدن الشمالية، هلع المستوطنين، خصوصاً وأنه ركز على دعوتهم في حال نشوب الحرب، إلى “إخلاء البيوت ومغادرتها بأسرع ما يمكن”، خشية إغلاق الطرقات “جراء السقوط المرتقب لصواريخ المقاومة، بما لا يتيح فرصة الحركة والتنقل”.
إن التدريبات أو المناورات الحالية التي يقوم بها جيش الاحتلال الإسرائيلي في المناطق الشمالية المحاذية للحدود، تحت مسمى “القبضة الساحقة”، تأتي بعد أيام من المناورة الرمزية التي قام بها مقاومو حزب الله، والتي شكلت محاكاة لعملياتٍ نوعية تحت عنوان “سنعبر”، ورسائلها حول الإنتقال من حالة الردع والتصدي للعدوان الإسرائيلي، إلى حالة الهجوم، وسط معادلة “وحدة الساحات” و”وحدة الجبهات” على مستوى محور المقاومة مجتمعاً.
في الوقت الذي يستبعد فيه بعض الإسرائيليين نشوب الحرب، نشرت القناة “14” الإسرائيلية تقريراً أكدت فيه أنه وبحسب تقديرات الجيش الإسرائيلي وأجهزة الأمن “ستكون الحرب في الجبهة الشمالية قاسية وطويلة”، وأقوى بكثير من الحرب في لبنان عام 2006، ولا شيء يشبهها، “فالحرب مع حزب الله ستكون قاسية ومدمرة وغير مسبوقة “لإسرائيل” وعلى الشعب اليهودي التماسك والصبر، وبأن الحزب “سيطلق 15 ألف صاروخ في أول 3 أيام من الحرب وعلى الجبهة الداخلية الإستعداد”.
تدرك سلطات الكيان الغاصب بأنها باتت اليوم تواجه الكثير من التهديدات سواء من إيران أو حزب الله أو من محور المقاومة مجتمعاً، في وقتٍ عبّر قادتها خلال المواجهة الأخيرة مع فصائل المقاومة في غزة، بأنهم “لا يسعون إلى حربٍ كبرى”، في وقت يراقبون فيه عديد التغيرات على خارطة الجغرافية السياسية، والإنخفاض الكبير في مستوى التوترات بين الدول العربية، ومثلها تلك التوترات بين إيران ودول الجوار، وهذا يصب في خانة تعزيز النفوذ الإيراني، وزيادة صلابة الجمهورية الإسلامية في مقاومة المشروع الصهيو –أمريكي في فلسطين المحتلة ولبنان وسوريا والعراق واليمن وعموم المنطقة، أمورٌ تزيد هواجس وقلق الكيان، خصوصاً مع إنشغال وتركيز الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين على الحرب ضد روسيا في أوكرانيا واستعدادها لمواجهة الصين.
ونتيجة لذلك، قد تكون إحتمالية إقدام سلطات الكيان المؤقت على عملٍ طائش، وخوض مواجهة جديدة على إحدى الجبهات أمراً معقداً، وقد يؤدي إلى مخاطر إقليمية كبيرة، في حين عبّرت المقاومة عن جهوزيتها واستعدادها، وسط إطلاق رئيس الإستخبارات العسكرية الإسرائيلية تحذيراته للمقاومة اللبنانية من “ارتكاب خطأ يؤدي إلى حرب في الشرق الأوسط”.
لا تحتاج سلطات الكيان الغاصب إلى ذرائع لشن العدوان، بالتماهي مع طبيعتها العدوانية التوسعية، وبتقديمها الدائم لأوراق إعتمادها على مذبح خدمة من زرعها كياناً إحتلالياً في فلسطين، وفي قلب الشرق الأوسط، ومع ذلك تستمر الرواية الإسرائيلية مع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، وإتهام إيران بإنتاج الأسلحة النووية، وبخطورة ومخالفات برنامجها النووي، على الرغم من إصرار وكالة الطاقة الدولية على دحض ورفض مثل هذه المزاعم، وبأنه لا أساس لها من الصحة، الأمر الذي يضعف من قيمة الإتهامات الإسرائيلية، ويجردها من ذريعة إشعال الحرب والعدوان على إيران، ويُبقي على منسوب القلق الإسرائيلي من حقيقة انكشاف ضعف ما تسمى القبة الحديدية، وامتلاك المقاومة عدداً كبيراً من الصواريخ الدقيقة، والطائرات المسيرة المتطورة، ناهيك عن قدرات وجهوزية عناصر المقاومة لإختراق وعبور الشريط الحدودي، وبتنفيذ عمليات الأسر، وتفجير الجدر الإسمنتية، وإقتحام المستوطنات.
بالإضافة إلى ذلك، بات على قادة الكيان توقع أن تدور المواجهة القادمة على أرض فلسطين المحتلة، وما بين المستوطنات والمدن الإسرائيلية، فقد استطاعت قوة المقاومة اللبنانية أن تشكل “مصدر إلهام” لقادة الكيان العسكريين بتجنب التحرك ضد حزب الله في لبنان، وبرفض اتهامه ببعض الهجمات الصاروخية، لأنها لا تبحث عن مواجهته وهي تعاني من الضعف والخوف والقلق، وعدم القدرة على توقع نتيجة المواجهة سلفاً، وسط غياب قدرتها على تغيير قواعد الإشتباك، وخشيتها من المواجهة دون معرفة مداها الزمني، ومتى ستنتهي، فقد باتت المقاومة هي من تستحوذ على هذه القرارات.
بات واضحاً أن قرار المواجهة الإسرائيلية مع حزب الله أو إيران أو سورية، لن يكون في تل أبيب، وأنها غير قادرة على ذلك بدون دعمٍ أمريكي مباشر، وهذا بدوره يستدعي قلقاً أمريكياً أيضاً على قواعدها وجنودها في سورية والعراق، وكامل منطقة الشرق الأوسط، وسط إدراكها قدرة إيران على استهداف أي قاعدةٍ أمريكية في المنطقة، خصوصاً وأنها تمتلك صواريخ بالستية، وصواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت، ويصل مداها إلى أكثر من 2000 كم .
في الوقت الذي يعتبر الكثيرون أن العودة إلى الإتفاق النووي لعام 2015، بما يحمله من تعديلات وإضافات تم التوافق عليها في الجولات السابقة، تتجه الأنظار اليوم نحو الزيارة الهامة التي قام بها سلطان عُمان إلى إيران، وسط تقارير إعلامية غربية تتحدث عن إمكانية مناقشة “اتفاق مرحلي” مع طهران، يضمن وقف التخصيب بما يفوق نسبة الـ60%، مقابل تحرير جزء من الأموال الإيرانية المجمّدة، وإعطاء الضوء الأخضر لتوسيع العلاقات الإقتصادية بين طهران والدول العربية، وقد سبق للجمهورية الإسلامية رفضها لهذه “المقايضة” المؤقتة، ولا بد اليوم من إنتظار الرد الإيراني عليها، ويبقى من المهم قراءة “العرض” الغربي، تحت عناوين استبدال لهجة الوعيد والتهديد الأمريكي، وخفض منسوب التوتر في المنطقة والعالم، وهذا بطبيعة الحال لن يكون خبراً سعيداً للحكومة الإسرائيلية، ويدعم فكرة إنشغال الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين بملف الحرب على روسيا في أوكرانيا، وبأنهم لا ينوون التصعيد الكبير مع طهران وأقله في هذه الاّونة، وتشجيع سلطة الكيان الغاصب على خوض الحرب الكبرى ضد فصائل وأحزاب ودول محور المقاومة.
يبدو أنه على قادة الكيان الغاصب التوقف عن توجيه التهديدات، والتظاهر بإمتلاك القوة الفاعلة والمؤثرة، خصوصاً وأن محاولاتها لتغيير معادلات الإشتباك لم تعد مجدية، ولم يعد بإمكانها شن الحروب الخاطفة وإنهائها بتوقيتها، وكذلك استخدام ذريعة الملف النووي الإيراني للعدوان على إيران، وقريباً ستفقد قدرتها على العربدة واستمرار إعتداءاتها الجوية والصاروخية المتكررة على سورية، وأهم ما تستطيع فعله اليوم سطرته في منشورها الأخير، حول اهتمامها بالملاجئ وبالمؤن، وبإخلاء المستوطنين بسرعة فائقة، وبحالة التفكك السياسي والإجتماعي الداخلي، وعليها تجنب الحرب الكبرى فقد تكون الأخيرة على مستوى بقاء ووجود الكيان المؤقت برمته.
وفي سياق المناورة العسكرية الذي قام بها حزب الله مؤخراً، وقبيل الذكرى 23 لتحرير الجنوب اللبناني في 24 /5/2000، حذر رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله السيد هاشم صفي الدين، من أنه “إذا ارتكب العدو حماقة وتجاوز قواعد اللعبة سوف نمطر هذا الكيان بصواريخنا الدقيقة وبكافة أسلحتنا التي نملكها، والعدو سيرى فعل الصواريخ الدقيقة في قلب كيانه”.