ظاهرة معاداة أئمة الهدى من أهل بيت المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، مهّدت لها مؤشّرات خطيرة، برزت بالخصوص في محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعقبة، عند منصرفه من غزوة تبوك، واجتراء من اجترأ عليه في حجرته الشريفة، بمنعه من كتابة وصيّته الهامّة التي عنونها بقوله: (هلمّ أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعدي أبدا) وقالوا مقالتهم دون حياء( إن النبي ليهجر)(1)، ثم ما استتبع ذلك من إجراءات بائسة، لمنع انتشار أحاديثه بين الناس، بإحراق ما توصّلت إليه أيديهم، وتحجير روايتها ومنع رواتها من التنقّل بها وبثّها خارج المدينة.
وتزامنت تلك الإجراءات مع محاصرة البيت النبوي، الذي أذهب الله عنه الرجس وطهره تطهيرا، رغم فرض مودّتهم على كافة المسلمين، وبدل الوفاء بواجب مودّتهم، قاموا بغصبهم حقّ أهله في ميراثه، والتطاول على بابه بإقتحامه، رغم تحذير من حذّر بأنه بيت فاطمة، فلم يأبه الرّجل لما قيل له.(2) في محاولة لإسقاط مقام ذلك البيت المقدّس ومن فيه من أئمة طاهرين عليهم السلام.
وجاء بنو أمية بعد ذلك، ليسوموا هؤلاء الطاهرين وأتباعهم سوء العذاب، فلم يسلم منهم أحد تقريبا، وسلبت جميع حقوقهم حتى أصبح المبتلى منهم، أقلّ قيمة ومقدارا من أهل الذّمة، فسُجن وعُذّب منهم من عذّب، وقتل من قتل، لا لجناية جنوها فاستحقوا بها القصاص، بل كانت تهمتهم فقط موالاة علي بن أبي طالب عليه السلام، واتباع نهجه المحمّدي الأصيل، وكانت كربلاء الحسين عليه السلام وصمة عار أبديّة لبستها السياسة الأموية، مثّلت فيها قمّة عدائها الذي بلغ مبلغا، تحطّمت عنده كل القيم الإسلامية، فلم يعد هناك شيء يحجز جلاوزة الحكم الأموي من إقتراف أي جريمة تخطر ببالهم، مهما بلغت فظاعتها، في سبيل إرضاء أهوائهم ودعم سلطانهم، فيما اعتقدوه مثبتا لأدوات حكمهم.
وكانت مأساة كربلاء وشنيع ما جدّ فيها بحق هؤلاء الطاهرين، قتلوا فيها سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي عليه السلام، وخيرة من أهل بيته وأصحابه، وانتهت المعركة بسبي حرائر نسائه وأطفاله، وحمل راسه الشريف ورؤوس الشهداء معه مع سبيهم إلى الكوفة أوّلا، ثم إلى دمشق ثانيا، تشفّيا منهم وإرهابا لمن بقي من أتباعهم المعارضين لظلم بني أميّة، لكن هيهات، فقد كانت كربلاء ونهضة الإمام الحسين في وجه طاغية عصره يزيد، تلك الشرارة التي أشعلت بانقداحها الأنفس المؤمنة التوّاقة، للسّير على خطّ الحسين عليه السلام، والمضيّ في منهجه المحمّدي، بسلسلة من الثورات تواصلت حتى سقط الحكم الأموي، بأيدي من رفعوا شعار (يا لثارات الحسين).
ولم يكن حكم بني العباس بعد ذلك بأحسن من سابقيه، فقد لقي أئمة أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم من أصناف العدوان وأنواع الإبتلاءات، ما يعجز وصفه واحصاؤه، فبنيت عليهم جدران ماتوا بداخلها وكانت لهم قبورا، وعذّب منهم من عذّب منهم، تفنّنا في الإنتقام ممن شايع عليا وأهل بيته عليهم السلام، وقد بلغت الوحشيّة والحقد بالمتوكل العباسي مبلغا لم يسبقه إليهما أحد، وكان قد ألزم ابن السكّيت تأديب ولديه (المعز والمؤيد)، فقال له يومًا (بعد أن وصلته وشاية): أيّهما أحب إليك ابناي هذان أم الحسن والحسين؟ فأجابه ابن السكّيت (رضوان الله عليه): والله أنّ قنبرًا خادم علي بن أبي طالب (عليه السلام) خير منك ومن ابنيك. فأمر المتوكّل جلاوزته، فأخرجوا لسانه من قفاه، فمات (رضوان الله عليه)، وكان ذلك في الخامس من شهر رجب سنة (244 هـ).(3)
المتوكل العباسي المعروف بعدائه السّافر، لمن فرض الله مودّتهم من أهل بيت نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، بلغ به حقده مبلغا دعاه إلى إصدار أوامره القاسية بمنع زيارة قبر الإمام الحسين عليه السلام، عندما بلغه تعهّد مواليه له وكثرة زواره، فلما لم ينجح في ردع الناس عن أداء واجب مودّته، ذهب إلى هدم قبره ومحو معالمه،
في سنة 236 هجرية أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي، وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأن يحرث ويبذر ويسقى موضع قبره، وأن يمنع الناس من إتيانه، فذُكر أن عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية: من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة، بعثنا به إلى المطبق (سجن مظلم تحت الأرض)، فهرب الناس، وامتنعوا من المصير إليه، وحُرث ذلك الموضع، وزُرع ما حواليه(4)
وقد أجاد الشاعر في القول تعليقا على ذلك الإعتداء السافر:
تالله إن كانت أمــــــــــية قد أتت * قتل ابن بنت نبيها مظلوما
فــــــــلقد أتاه بنو أبيه بــــــمثله * هــذا لعمرك قـبره مهدوما
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا * في قــــتله فتتبعوه رميما (5)
(وكان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب، غليظاً على جماعتهم، مهتمّاً بأمورهم، شديد الغيظ والحقد عليهم، وسوء الظن والتهمة لهم، واتفق له أن عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزيره يسيئان الرأي فيهم، فحسَّن لهما القبيح في معاملتهم، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله، وكان من ذلك أن كَرَّبَ قبر الحسين (ع)، وعَفَّى آثاره، ووضع على سائر الطرق مسالح له، لا يجدون أحداً زاره إلا أتوه به، فقتله أو أنهكه عقوبة)(6)
واستمرت محنة أهل البيت وشيعتهم على مر السنين والدّهور، وهدف الظالمين لهم قطع شأفتهم من الوجود، إلى أن ظهر ابن عبد الوهاب بتطرّفه الجديد، في هدم مشاهد القبور الشريفة، وكانت مصيبة بقيع الغرقد وتراث الإسلام من حوله في المدينة وفي مكة، من المظالم التي انضافت إلى سلسلة إعتداءات آثمة، طالت كل ما تعلّق بأئمة أهل البيت الطاهرين عليهم السلام، كشفت عن مدى حقد الحكام لهم سواء أكانوا أمويين أم عبّاسيين أم عثمانيين، بيوتا وقبورا وأتباعا.
تحالف آل سعود وابن عبد الوهاب، في فرض منطق ديني شاذّ، عما درج عليه المسلمون قرون طويلة، عمل منذ بدايته، على اتّهام المسلمين الشيعة بعبادة قبور أئمتهم، تشويها لحقيقة تعهّدها بالزيارة وفاءً لمودّة ذوي قربى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قربة إلى الله تعالى، بالدعاء عندها، والصلاة له فيها، باعتبارها في عقيدتهم مشمولة للبيوت التي ذكرها الله تعالى في كتابه: (في بيوت التي أذن الله أن تُرفع) (7)، وقد عمل الإستعمار البريطاني على توطيد عُرى الفكر الوهابي بقوّة الأموال والأسلحة، لإخضاع أهل الجزيرة إليه أولا، والسيطرة على مكة والمدينة المقدّستين ثانيا، ومنها السّيطرة والتحكم في الحج والعمرة، لحمل بقيّة المسلمين على إتّباع هذا المذهب التكفيري المبتدَع.
في الثامن من شهر شوال من سنة 1220 هجرية (1805 م)، أقدمت زمرة الوهابية التكفيرية متحالفة مع حكومة المملكة، على ارتكاب جريمة كبرى، تمثّلت في هدم قبور أئمة الهدى في البقيع، تنفيذا لمقالتهم التي زعموا فيها، بأن هدفهم يكمن في تطهير الحجاز من الشرك، ومظاهره المتمثلة بنظرهم، في حرمة البناء على قبور الصالحين من صفوة عباد الله ومنع زيارتها، فكان ذلك الحدث الأليم بداية استقواء هذه الفرقة المتطرفة، بعدما أجازت لها بريطانيا، مقاسمة الحكم بينها وبين أسرة آل سعود، وتكرر الهدم بعد ذلك في شهر رمضان سنة 1344 هجرية، وقد أثار هدم قبور البقيع موجة غضب واحتجاجات في مختلف البلدان الإسلامية، من بينهم إيران، وحتى يومنا هذا فإن الشيعة تقيم مجالس العزاء والبكاء بهذه المناسبة، ويقدمون التعازي، ويقرؤون المراثي في ذكرى سنوية لهذا اليوم.(8)
ولو وجد الوهابية المجال دون أن يلحقهم ضرر، لقاموا بهدم قبر النبي صلى الله عليه وآله، ونقله من مكانه إلى خارج المسجد(9)، لكن خشيتهم من انقلاب المسلمين عليهم، دعاهم إلى عدم الإقدام على ذلك الفعل الشنيع، وإن كان لا يزال يخامر شيوخهم إلى اليوم، ويرونه من صميم تطهير الأماكن المقدّسة من الشرك، ويتربصون بالفرصة متى سنحت لهم، ولو تمددت داعش إلى السيطرة على المدينة، لأقدموا على ذلك، لكن هيهات أن يتمكنوا من تنفيذ مخططهم، وفي البلاد رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
لم يقُلْ أحد بحرمة البناء على قبور الأنبياء والأئمة الهداة والعلماء الأعلام والشهداء الأبرار، وكان تعامل الأجيال الإسلامية على احترام وتقديس تلك المشاهد جاريا على أساس جوازها، واستحباب زيارتها، إلى أن نجم قرن الشيطان في نجد، ليحرّض من بلغت به شِقوته، مبلغ اقتحام عقبة معاداة أولياء الله والبروز له بالحرب، وها نحن اليوم في مواجهة زمر وهابية ضالة، رعتها الدّوائر الأمريكية والصهيونية، لتفريق المسلمين ووضع بعضهم في مواجهة البعض، بإشعال الفتن وايغار الصّدور بينهم، بما ليس من الدين في شيء، فليحذر المسلمون أن يتغلغل هذا الفكر الهدّام في العقول، فيصبح بلاءً ووباء على الجميع، وقد أعذر من قد أنذر.
المصادر
1 – جامع أحاديث البخاري كتاب الجهاد والسير ج4ص69ح3053وكتاب المغازي باب مرض النبي ج6 ص9ح443/صحيح مسلم كتاب الوصية ج5ص75ح1637
2 – الإمامة والسياسة ابن قتيبة الدينوري ص19
3 – وفيات الأعيان ابن خلكان ج 6 ص 400-401/ بغية الوعاة السيوطي ج 2 ص 349/ طبقات النحويين واللغويين الزبيدي ص 202.)
4 – ذكر أحداث سنة 236/ تاريخ الطبري ج9ص 185
5 – بحار الأنوار المجلسي ج45 ص 405/العوالم – الامام الحسين البحراني ص749
6 – مقاتل الطالبيين أبو الفرج الأصفهاني ص395
7 – سورة النّور الآية 36
8 – هدم قبور أئمة البقيع https://ar.wikishia.net/view/
9 – الوهابيون حاولوا هدم قبر النبي.. ودراسة سعودية أوصت بنقل رفاته إلى قبر مجهول
http://www.dakhlapost.net/pages/5-20.html