أحسّني على موعد مع آل البيت عليهم السلام هذه الأيّام. أشنّف الأذن وأنعش الفؤاد بالزيارة الجامعة الكبيرة منذ أمس وما كنت أعرف هذا الدّعاء في التّعريف بفضل الآل والسلام عليهم وها أنا أكتشف أنّ اليوم أو يوم الغد يصادف عيد الغدير وهو إن كان عيدا لدى المسلمين الشيعة تخصيصا فإنّ الحدث معلوم عند الشيعة والسنة ويرد في مصادر الفريقين. وخلاصة ما يرد أنّ النبيّ أخذ بيد علي وأعلن:”من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه. اللهم والي من والاه وعادي من عاداه”.
أصبحت أنظر في أمر ما كان من اختلاف وصراع بين المسلمين نظرة أحسب أنّها قد تخرجني من تسنّن اذا كان التسنّن اعلان خصومة مع الشيعة من دون أن تدخلني الى تشيّع يُحسب مضادّا للشيعة. لا يعنيني في شيء أن لا أصنّف أو أن تنبذني هذه الجماعة أو تلك. لا أقبل لنفسي أن أكون وارثا لمذهب أو لدين. أنت لا تملك ما ترثه اذ بالحساب المعنوي ما ترثه هو ملك المورِّث لا الوارث. تملك فقط ما تنحته وتبدعه ولست مستعجلا فقد لا أبني لنفسي شيئا والعمر قصير ولكن تشفع لي نيتي أنني أبحث وأسأل وأفكّر وأجتهد بما أستطيع. ولدت في تونس السنية المالكية فكنت سنّيا مالكيا. هذا أمر لا أنكره ولا أتنكّر له ولا أفخر به ولا أقارع به مختلفين عنّي مذهبا ودينا. غيري ولد جنوب العراق فكان شيعيا جعفريا. هو أيضا اذا افتخر بميراثه وقارع به وقاتل مختلفين سقط في القبيح. لا أنكر على هذا الشيعي قدرته على الإنطلاق من ميراثه ليكون منه خير وصلاح ورقي أخلاق ونفع خلق. كذلك هو يُفترض فيه أنّه لا ينكر عليّ قدرة على النفع اذا انطلقت من المذهب الذي ورثت وأشترك فيه منذ قرون مع خلق كثير هم قومي وأهلي. لا هو بتشيّعه عليّ والحسين ولا أنا بتسنّني معاوية ويزيد. قد نكتشف أنا وهو أنّ سنّة يقفون مواقف علوية حسينية وأنّ شيعة يقفون مواقفة لا تقاس الا بمعاوية ويزيد.
ليس الإنسان ما يقول أنّه هو ولا هو مُعتقده ولا هو عنوانه ولا هو عصبيّته الدينية والمذهبية. هكذا أفهم أن يكون اللّسان بمكان والسيف بمكان وقد جرّب الحسين من هذا التعقيد الإنساني ومن هذا الإزدواج. من اليسير جدّا رؤية الشيعة والسنّة يخلصون الى ما أخلص اليه هنا وبناء مشترك على أساسه. هذا اذا كانت مسائل الدين والمذهب مسائل فكر واعمال رأي وتحرّ وكفى وهي ليست كذلك. هي عصبيّات كلّسها التاريخ وهي ثارات وهي نكايات. هي أيضا من فعل السياسة ولا تنشّط في الإنسان، فردا وجماعة، شيئا كما تنشّط الغريزة بل هي تغوّلها وتحوّلها مُفزعة مخيفة. اذا أمسكنا بحكم فهي غريزة متسلطة باطشة واذا عارضنا بالسياسة حاكما فالغريزة ثأر لا ينتهي. في العام فإنّ عقبة المتمذهبين الكأداء هي هذه: الفشل في الفصل بين المعنوية الإسلامية وتاريخ المسلمين. أنا سنّي وأشهد أنّ في مذهب السنّة كذب وبهتان من دون أن يقودني هذا الى اقرار خفيف مراهق بأنّ منظومة الشيعة العقدية طاهرة مطهّرة.
المذهب الشيعي وإن قام على حبّ آل البيت والإنتصار لهم فقد دخل عليه عبر القرون آسن كثير واجتمعت فيه رؤى واجتهادات لعبت دورا في رصّ الصفوف ورفد الجمهور والحفاظ على عصبية عانت الويلات. يطغي التاريخ على الاسلام في المعتقد السني كما يطغى في المعتقد الشيعي وهو طغيان على حساب الأصل الصافي والنبع الأوّل. ماذا يفعل بي السنّة إن أنا قلت في معاوية أنه طاغية ظلوم غشوم لا علاقة له بقرآن ونبوة وأنّه ثأر قريش من النبيّ والنبوّة؟ لن يقبل السنّة مني هذا القول في من يترضون عنه وقد زاد الترضي عنه خلال السنوات الماضية بشكل قياسي. سيرونني بهذا القول شيعيّا جدا. وماذا يقول الشيعة يا ترى ان أنا ذكرت علي وقلت فيه عليه السلام وأقررت يولايته من دون أن أتّخذ مرجع تقليد ومن دون أن أكون جعفريّا مثلا؟ قد يروق لهم موقفي من علي ولكنّهم لن يعدّوني شيعيّا. الواقع أنني شيعي ذلك التشيع الاول أمّا بحساب المتأخرين فقد لا أكون ذلك الشيعي. هو تشيّع أول لا يجمع ثرى وثريّا ولا يقول معاوية وعلي.
من قليل الذوق والخسّة وفقدان العقل ذكر المرء علي ومعاوية وكأنهما صنوان. جمعهما التاريخ أو أيام يداولها الله بين الناس. غير ذلك لا جامع ولا علاقة ولا تناسب. كذلك عندما تعلّق الأمر بحسين ويزيد. قد يجمع الله بين نبي وشيطان ولكنه اذا جمعهما فلابراز مطلق التضاد وكامل التنافر. لا أقول، وبئس القول ان تجرّأت وقلت ، أنّ صراعا على السلطة والحكم كان بين هذا وذاك. قد تكون الأمور هكذا من خصوم آل بيت النبوة أمّا منهم فلا. قد تكون نية من ناصروا ال البيت بلوغ السلطة بهم وبرمزيتهم العالية ولكن لا دخل لآل النبيّ في هذا البتّة. لهؤلاء من الخصوصية الذهنية والنفسية والروحية والأخلاقية ما يجعلني أنزههم كلّ التنزيه. لو أراد علي الذي أقصي من السقيفة لأفسد على الخلفاء الذين سبقوه مُلكهم ولكنّه لم يفعل وقد فسد هذا الملك من دون أن يسعى عليّ في ذلك. لم يرفض ما تمخضت عنه السقيفة ولا طعن في وراثة عمر لأبي بكر ولا في تربع عثمان بعد عمر وتمكينه للأرستقراطية الأموية وحتى مكر معاوية لم يخرجه من طوره. كان مع ذلك هو الوريث حقا وهو الوصي حقّا وهو الخليفة حقا. لم يكن النبي ملكا أو أميرا ليورّث ملكا وإمارة. كان نبيّا في جوهريته ولم يصادف أحد من هذه الجوهريّة كما صادف علي ومن يصادفها يدرك أنّ الملك هناك والخلافة هناك والحكم هناك.
لقد كان علي هو الخليفة بحساب ومقاسات النبوّة والجوهرية والمعنوية الإسلامية. الحسابات الأخرى واهية واهمة ومشكلة التشيع التصورية الكبرى، على الأقل هكذا اجتهد، في اعتقاده أنّ خلافة كانت لعليّ واغتصبت منه ومن ذريته من بعده وعليه فرسالة التشيع وغايته ثأر وردّ الامانة الى أهلها الجديرين بها. وهل الأمانة، بمنظار النبوة، حكم وسلطة؟ وهل اذا أبعد الله الرجز عن خاصة وطهّرهم تطهيرا يقذف بهم الى جهنم السياسة ونار السلطان؟ الوراثة قرآن وليست سلطانا والآل ورثوه تدبرا وفهما وغوصا وتأويلا لطيفا عبقريا. هذا رزقهم وأين منه رزق غيرهم؟ أعترف وأنا السني أنّني أعيد التفكير في الإسلام والإيمان وأنا أطلع على دعاء كميل والصحيفة السجادية والزيارات: عسل مصفى ومعنوية لا يقدر عليها الا من ورث من النبوة أنوارها الأبهر.
أمّا عن الحكم فأحسب أنّ هذه المعنوية ستحكم العالم قريبا. لن تحكمه قهرا ولا تحكم المعنويات قهرا. ستحكمه عندما يبلغ الطور الذي نحن فيه مداه وهو يبلغه حثيثا. سيوالي الله من يوالي عليا ظاهرا بعد باطن ويعادي من يعاديه ظاهرا بعد باطن مع تحول دال في الجغرافيا فليس قدر علي أن يحكم قريش اذا العالم بأسره قليل عليه. سيحكم العالم لا بذاتيته فهو عُلويّ وإنّما تحكم المعنوية العلوية أي أنّ العُلويّة تحكم العالم بعد أطوار من السفلية. الإنسانية المكلومة ستحكّم الروح بعد طغيان المادة وستستعيد أمل السماء بعد يأس من الأرض. هكذا أفهم الغدير وحديثه وهكذا أفهم الوصية والخلافة. أفهم تطلعا واستشرافا وفتحا على قادم. ما كان ماضيا لم يكن الا بحساب وتدبير وحكمته تعالى محيطة لا تفلّ فيها سقيفة ولا مراهقة قريشيين. هو فهم قد يروق وقد لا يروق ولا يعنيني ذلك في شيء. هو من التفكير الحرّ والتفكير في ذاته دين كما الحرّية مذهب مفيد. من المفيد جدا الإنتباه الى حقيقة أنّنا نقرأ القرآن الملكوتي بعين الملك أي أنّنا نختزل أمد عظيم خاتمته سعيدة في لحظات بائسة هيّنة. ملاحم المعنى التي خاضها ال البيت لا علاقة لها بتمثلاتنا التراجيدية القاصرة القليلة.
Tags الهذيلي منصر عيد الغدير غدير خم
Check Also
عيد الولاية والأخوة… بقلم محمد الرصافي المقداد
اليوم وإذ نبارك لأتباع خط الولاية الإلهية حلول عيد الغدير الأغرّ، نقف عند محطّته العظيمة …