لأنه ما من حربٍ جيدة , ولأن ماّسيها واضرارها وتداعياتها لم تعد تُحصر في ساحاتها وجبهاتها فقط, ترحب عديد الدول وغالبية شعوب العالم, بالحلول السياسية وبالتسويات والمفاوضات, لوقف الحروب واّلات الموت والدمار والجوع, وهذا بطبيعة الحال شكل جوهر مواقف قادة القارة السمراء , ودفعهم للعب دور الوسيط في الصراع الحالي ما بين موسكو وكييف.
حيث توجه الوفد الأفريقي يوم السبت 17/يونيو, بعد أن ضم رؤساء كل من جنوب إفريقيا وجزر القمر وزامبيا والسنغال، ورئيس وزراء مصر وممثلين عن أوغندا والكونغو, إلى سان بطرسبرج للقاء فلاديمير بوتين، بعد أن أمضوا يوماً سيئاً في كييف وبضيافة الرئيس الأوكراني, الذي استقبلهم بطريقة لم تخلوا من الإذلال والإهانة, مستكملاً المسرحية اللااخلاقية بحق الزائرين في بولندا, الأمر الذي ساهم بإفساد الزيارة شكلاً وضموناً.
بطبيعة الحال كان هدف القادة الأفارقة هو التوصل إلى حلٍ وسط يرضي الطرفين والأمم المتحدة, لكنهم لم يتأخروا لإدراك استحالة مهمتهم, وبأن المفاوضات التي أعدوا لها أجندة مناسبة وواقعية, بدت بلا معنى, نظراً للبون الشاسع بين مواقف موسكو وكييف التي لا تملك قرارها وتفويضاً أمريكياً لبدء التفاوض, وتتصرف وكأنها وكيل غربي وليست طرفاً اساسياً في الصراع، وبأن الحل السياسي سيبقى بعيداً طالما تستمر القوات الاوكرانية بتلقي الدعم العسكري الغربي, يبدو أنه سيتسمر لحين مغادرة الرئيس جو بايدن البيت الأبيض.
وبالفعل فقد عرض الأفارقة خطتهم للسلام والمكونة من 10 نقاط على الملأ , بهدف المساعدة على التوصل إلى تسوية عاجلة للصراع, تشمل خفض التصعيد, والضمانات الأمنية, والمساعدات الإنسانية, وتبادلٍ للأسرى, إطلاق سراح السجناء وإعادة الأطفال إلى حيث أتوا.
في وقتٍ اعتبر فيه البعض أن الرئيس الجنوب أفريقي “رامافوزا” يبحث عن تكريس زعامته في القارة الأفريقية, ومنح دول الوفد الأفريقي أيضاً مكانةً جديدة تمكنهم من الدخول على خط الأزمات الدولية, ولعب دورٍ دولي محوري كوسطاء في الصراع الروسي الأوكراني، وبأنهم ليسوا مجرد قادة دول تتلقى المساعدات الدولية فقط.
لكن ما حدث في كييف لم يكن متوقعاً, فقد تعمد الأوكرانيون الخروج عن برتوكول الزيارة, واستقبلوا زائريهم في منطقة بوتشا, كشاهد على ما يصفونه بـ “جرائم الحرب الروسية”, وحلقت بعض طائراتهم الحربية, واستعرضت مواجهة هجوم جوي روسي مزعوم, شكك به أعضاء الوفد.
التقى الوفد الزائر بالرئيس الأوكراني, الذي تعمد إفشال الزيارة منذ لحظاتها الأولى, وبدا فظاً للغاية أثناء المؤتمر الصحفي الذي جمعه بالرئيس رامافوزا, ورفض بنبرة حادة دعوات الوفد للسلام، ولبدء المفاوضات مع روسيا، مؤكداً على استحالة حدوثها مع وجود “المحتلين” على أراضي بلاده, واصفاً هدف خطة السلام الأفريقية بأنها “تجميد للحرب”, وقال للوفد بتهكم وفظاظة : “جمّدوا كل شيء, جمدوا الألم والمعاناة”, في الوقت الذي اعتبر فيه وزير خارجيته كوليبا بإنهم “يريدون استسلام أوكرانيا وليس السلام”.
لم يتأخر الأفارقة في تقييم العقبات والعراقيل التي وضعها زيلينسكي أمامهم, وأدركوا على الفور استحالة مهمتهم, وسط استيائهم من الطريقة التي عوملوا بها , ليس في أوكرانيا فقط , بل من قبلها وعلى الجانب البولندي أيضاً , حيث مُنع مرافقي الرئيس رامافوزا وعناصر الحرس والأمن الشخصي من النزول من طائرتهم بحجة أنهم لا يحملون تراخيص لحمل السلاح , وترتب على رئيس جنوب إفريقيا أن يسافر إلى أوكرانيا دون مرافقة صحفية وأمنية , كذلك تعمدوا صباح السبت وأثناء مغادرة الوفد نحو روسيا ، منع طائرة الحراس الأمنيين والإعلاميين المرافقين , من دخول المجال الجوي البولندي, لقد تعمدت أوكرانيا وبولندا , إهانة الوفد الأفريقي , وبإظهارهما كماً هائلاً من الوقاحة واالعنصرية الأوروبية المعروفة .
وفي روسيا اختلف المشهد كليةً, وتم استقبال الوفد الأفريقي بحفاوة في قصر كونستانتينوفسكي في سان بطرسبرغ, وناقش الرئيس بوتين مع زائريه , إمكانية استكمال العملية الخاصة, والسبل الممكنة لتسوية الأوضاع في أوكرانيا, ومستقبل صفقة الحبوب , ومن خلال أجواء النقاش بكل صراحة وإيجابية, أكد رئيس جزر القمر , أن الصراع في أوكرانيا أثر على أفريقيا, وتسبب بتهديدات غير مسبوقة لقطاعي الغذاء والطاقة , فيما أشار الرئيس السنغالي, إلى ضرورة الحوار , والإمتثال لميثاق الأمم المتحدة .
لكن بوتين فاجأ الجميع, وكشف للمرة لأولى عن مسودة المعاهدة والوثيقة الموقعة بالأحرف الأولى مع رئيس لجنة التفاوض الأوكراني، في مارس/اّذار 2022 في إسطنبول, والمعنونة بـ “معاهدة الحياد الدائم والضمانات الأمنية لأوكرانيا”, وأكد أنه بموجبها انسحبت القوات الروسية من كييف ومناطق أوكرانية على أساس اتفاق سلام، لكن كييف لم تلتزم به, و”رفضت التوقيع على الإتفاق بعد انسحاب القوات الروسية طوعياً كجزء من الصفقة”.
وبحسب بعض وسائل الإعلام الروسية والغربية, فقد تزامنت الإتفاقية مع زيارة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون, الذي حث كييف على قطع المحادثات مع موسكو, تحت عنوان “لا يمكن التفاوض مع بوتين”، وبأن “الغرب ليس مستعداً لنهاية الحرب”.
كذلك أكد الرئيس بوتين, أن جميع المشاكل في أوكرانيا بدأت بعد الإنقلاب العسكري عام 2014 ، بدعم غربي, وأن بعض الأوكرانيين لم يدعموا السلطات الجديدة, على الرغم من مساعدة موسكو واسترشادها بالعلاقات التاريخية, لكن الغرب أوصل التفاوض إلى طريقٍ مسدود, وأصبح من حقنا الإعتراف بإستقلال بعض المناطق, بما يتفق تماماً مع ميثاق الأمم المتحدة.
بالإضافة إلى ذلك، أوضح للقادة الأفارقة أن أزمة الغذاء لم تكن مرتبطة بالمنظمة البحرية العالمية, ونشأت مع انخراط الدول الغربية بإجراءات إقتصادية لحل مشاكلها المتعلقة بجائحة فيروس كورونا, ومع ذلك أبرمنا صفقة حبوب لضمان وصولها إلى أفقر البلدان في إفريقيا.
وفيما يتعلق بالمفاوضات مع أوكرانيا، أكد بوتين أن روسيا لم ترفضها, لا بل كان من الممكن الإتفاق على تطبيق بنود معاهدة اسطنبول للسلام في ربيع العام الماضي, لكن الجانب الأوكراني انسحب من الصفقة أصدرت مرسوماً يحظر المفاوضات, وتساءل عن الضمانات بعدم تراجعهم عن إتفاقات أخرى.
فيما يتعلق بالأطفال، قال بوتين: “هذا شيء مقدس – لقد أخرجناهم من منطقة الصراع، وأنقذنا حياتهم, وتم إخراجهم من دور الأيتام مع عائلاتهم أو أقاربهم , بشكل قانوني”, ومع ذلك أصدرت المحكمة الجنائية الدولية “مذكرة توقيف” بحق الرئيس بوتين.
من الواضح أن زيلينسكي أخذ على عاتقه رفض الوساطة الإفريقية, وحافظت واشنطن على مقعدها الخلفي في القيادة والتحكم, وبالمزيد من الضغوط على حكومة كييف, وكرر الرئيس جو بايدن كلامه حول عدم قبول إنضمام أوكرانيا إلى الناتو وهي في حالة صراع عسكري, وأنه لا يمكن النظر في قبول عضويتها إن لم تكن تتمتع بالسيادة والديمقراطية, وهذا ليس من باب المبادئ, إنما لدفع أوكرانيا أكثر فأكثر نحو تحقيق نصرٍ عسكري على روسيا, وأقله استمرار الحرب وإطالة أمدها.
من الواضح ان الزيارة والوساطة الأفريقية لم تحظ بترحيبٍ الغربيين, وأرادوا وأدها قبل أن تبصر النور, ولا زالت العناوين العسكرية الميدانية, وسلاح العقوبات, هي الأكثر حضوراً على الجانب الغربي بقيادة الولايات المتحدة, وزال التعويل على استمرار الهجوم الأوكراني المضاد, على الرغم من فشله, يشكل البوصلة ومصدر الإلهام الغربي, في وقتٍ يستمر فيه الرهان على تكريس العداء لروسيا, وإعتبار موسكو “مصدراً رئيسياً للتهديد”, وأن تدرج في إستراتيجية الأمن القومي الألماني الجديدة على هذا الأساس, رغم “ابتعادها عن المنطق ومصالح ألمانيا والشعب الألماني” – بحسب الوزير سيرغي لافروف-.
يبدو أن الوفد الافريقي لم يفقد الأمل بشكل نهائي, وسط تأكيد رئيس جنوب أفريقيا استمرار العمل والتواصل مع كلا الطرفين لحين عقد القمة الأفريقية القادمة قريباً, وبان الوفد لا يزال يبحث عن الأجوبة لتساؤلاته, معتبراً أن وساطتهم ومساعيهم تشكل “إنجازاً” هاماً بالنسبة لهم.
الوسومافريقيا اوكرانيا ميشيل كلاغاصي
شاهد أيضاً
هوكستين ينسف القرار 1701.. مؤتمر باريس للدعم أم للتهويل والرشوة ؟… بقلم م. ميشال كلاغاصي
نجحت وسائل الإعلام الأمريكية والفرنسية بتعميم مصطلحات جديدة لتوصيف تحركات الموفد الأمريكي إلى لبنان عاموس …