– لأن الكيان الصهيوني بكل ما يملك من قوة عسكرية وتكنولوجية ودعم من الغرب وخصوصاً الإدارات الأمريكية المتعاقبة لم يتمكن طوال مائة عام من قهر الشعب الفلسطيني أو دفعه للاستسلام، سواء من خلال المواجهات العسكرية أو على طاولة المفاوضات، لذا وجد أنه يمكن إضعاف مناعة وصمود الشعب الفلسطيني من خلال تدميره داخلياً بمشاكل وقضايا تُشغله وتلهيه وتبعده عن قضيته الرئيسة، وتفكيك معسكر حلفائه وعمقه العربي بالتطبيع وإثارة الشقاق بين الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، ومن خلال إفساد الطبقة السياسية الفلسطينية الحاكمة، وللأسف نجح مخطط الإلهاء نسبياً.
تروم هذه الاستراتيجية تغيير طبيعة الصراع وتدمير البنية الاجتماعية والثقافية الفلسطينية وكي وعى الشعب وزعزعة ثقته بنفسه وبعدالة قضيته وتشتيت الانتباه عن القضية المركزية وإيصال الشعب لدرجة من الإحباط واليأس تدفعه لقبول أية تسوية سياسية، وبالتالي تصفية المشروع الوطني التحرري.
هذه الاستراتيجية يتم تقاسم الأدوار فيها ما بين واشنطن وتل ابيب وبمشاركة واعية أو غير واعية لأنظمة عربية وأجنبية ونخب فلسطينية عاجزة وفاشلة.
لهذه الاستراتيجية عدة ميكانزمات ولها مقاولون محليون يوظفون المال السياسي بشكل غير مسبوق في تاريخ الشعب الفلسطيني بل في تاريخ كل الشعوب، بحيث أصبحت الرواتب وكل أشكال المال الذي يدخل مناطق السلطة في غزة والضفة، سواء للسلطتين أو لمؤسسات المجتمع المدني، تحت مسمى المساعدات أو الدعم، بمثابة رشوة جماعية وعصا غليظة لإخضاع وإفساد الشعب وإثارة الفتنة الداخلية، حيث المال مقابل التنسيق الأمني ووقف المقاومة، بدأ الأمر مع السلطة الوطنية ثم انتقل إلى سلطة حماس في قطاع غزة.
كانت المراهنة على استراتيجية الالهاء حاضرة منذ توقيع اتفاقية أوسلو والنص فيها على إجراء انتخابات لاختيار من يُدير السلطة، والانتخابات تعني تنافس وصراع بين الأحزاب على السلطة بدلاً من التوحد في مواجهة الاحتلال، وقد حاولت القيادة الفلسطينية بوعي ومسؤولية من الشعب وقواه الحية عدم الوقوع في هذا الفخ إلا أن الأمور سارت على عكس ما راهنت عليه القيادة والشعب في قبولهم التحدي الديمقراطي في ظل الاحتلال، وآلت أول تجربة ديمقراطية شاركت فيها كل القوى السياسية – ما عدا حركة الجهاد الإسلامي –في يناير 2006 إلى الوقوع في المحظور وعمت الفوضى والاقتتال ثم الانقلاب على السلطة.
وجدت استراتيجية الإلهاء تربة خصبة بعد الانقسام ووجود سلطتين مرتهنتين لواقع الاحتلال حيث استُجِدت قضايا زادت الأمور سوءا كالصراع على السلطة وحصار قطاع غزة وقضية الرواتب وتدهور الأوضاع المعيشية ومشاكل الكهرباء والسفر والرواتب وتقليص خدمات الاونروا والمقاومة الأرتزاقية على حدود قطاع غزة وفوضى السلاح في الضفة الخ، وهي أمور مرتبطة وجزء من تخطيط استراتيجي موجه ومقصود تديره الأطراف المعادية للشعب الفلسطيني وليست أموراً عفوية وعابرة أو أخطاء إدارية وسياسية هنا وهناك.
كل ذلك جعل الطبقة السياسية الفلسطينية تتصرف في الفترة الأخيرة بردود أفعال وبطريقة انفعالية ودون رؤية مستقبلية واضحة سواء في إدارة السياسات العامة داخلياً أو التعامل مع القضية إقليمياً ودولياً.
سياسة التخبط وردة الفعل المتسرعة كانت واضحة في التعامل مع موجة التطبيع العربي الجديدة، حيث تحدث قادة بعض الأحزاب في لقاء بيروت – رام الله وكأننا في زمن السبعينيات بينما لم تطلق غالبية هذه الفصائل النار على إسرائيل أو تقتل إسرائيليا ًمنذ أكثر من عشرين عاما وتعتاش على المساعدات التي تأتي للسلطة من العرب وغيرهم عن طريق إسرائيل، حتى الاتفاق الفصائلي على تشكيل قيادة وطنية موحدة للمقاومة الشعبية كان مسرحية سيئة الإخراج، وفي نفس سياق التخبط وردود الفعل غير المتزنة كان التوجه إلى تركيا وقطر مما آثار الحلف السعودي المصري الإماراتي وهو ما يتعارض مع مبدأ استقلالية القرار الوطني، وأخيرا عودة المراهنة على الرئيس الأمريكي الحديد مع أن هذا الأخير سيكون نسخة مشوهة عن أوباما، وقد خبِرنا سياسة أوباما طوال ثمانية سنوات.
أما عن الارباك والالتباس بل والتناقض في التصريحات حول الانتخابات والمصالحة فحدث ولا حرج، ويكفي ذكر مهزلة الحديث عن قائمة مشتركة بين فتح وحماس، ولا نعرف إن كانت في مواجهة الشعب أم في مواجهة منافس قادم يهدد الطرفين، فإذا كان التوافق بين الطرفين وصل لحد تشكيل قائمة مشتركة فلا داع للانتخابات وليشكلوا حكومة وحدة وطنية ويوفروا تعب ونفقات الانتخابات!!!.
ويأتي قرار عودة التنسيق مع إسرائيل آخر تعبيرات حالة التخبط والتيه. فبما أن قرار وقف العمل بالاتفاقات الموقعة مع إسرائيل بما في ذلك التنسيق الأمني تم الإعلان عنه من طرف الرئيس أبو مازن تنفيذاً لقرارات سابقة للمجلسين الوطني والمركزي، كما أن قرار سحب السفراء من دولتي الإمارات والبحرين كان من طرف القيادة انسجاماً مع اجتماع الأمناء العامين للفصائل، وإن كان هناك ضرورة ومصلحة وطنية بالتراجع عن هذه القرارات كبادرة حسن نية للإدارة الأمريكية وتمهيداً للعودة لمفاوضات لا مفر منها، فكان من الأجدر أن يتم اتخاذ قرار التراجع عن القرارات السابقة من نفس الجهة التي أصدرتها مع توضيح لأسباب العودة والسياسة القادمة وتحدياتها والشعب يمكنه أن يتفهم، وخصوصاً أنها قرارات لها تداعيات استراتيجية تمس ملفي المصالحة الوطنية والتسوية السياسية، كما تطرح تساؤلات حول مستقبل ما تم الاتفاق عليه في اجتماع الأمناء العامين للفصائل في بيروت ورام الله ولقاء المصالحة في استنبول، وخصوصاً من جهة الاتفاق على مواعيد للانتخابات وتشكيل قيادة وطنية موحدة للمقاومة الشعبية. فهل كل ما جرى منذ إعلان القيادة بأنها في حل من الاتفاقات الموقعة مجرد مناورة وزوبعة في فنجان.
ما سمعناه مؤخراً من عودة التنسيق الأمني وعودة السفراء، بالشكل الذي جرى، فيه استهتار بكل المؤسسات القيادية ويشي بوجود أزمة قيادة وغموض في موئل أو مرجعية اتخاذ القرار السياسي، فهل هي اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير التي غالبية الشعب لا يعرف أسماء أعضائها أو يلحظ لهم أي نشاط وطني؟ أم اللجنة المركزية لحركة فتح وإن كانت هذه الأخيرة صاحبة القرار فلماذا لم تجتمع وتتخذ قرارات التراجع عن القرارات السابقة؟ أم هي مؤسسة الرئاسة؟ أم الحكومة؟ أم اجتماع الأمناء العامون للفصائل؟ أم هناك دولة عميقة لا يعرفها المواطنون تتكون من أشخاص محدودين يفرضون وجودهم بقوة الأمر الواقع وبفوة تحكمهم بتلابيب السلطة أمنياً ومالياً؟
ولكن، ولأن الصراع ما زال مفتوحاً والقضية الفلسطينية لن تنتهي ولأن فلسطين ليست مِلكا أو حِكرا على الطبقة السياسية الراهنة أو بعضها، ولأن سلطة المال المذلة لن تستمر طويلاً، فمن الممكن إفشال استراتيجية الإلهاء ووقف حالة التدمير الذاتي أو الحد من تأثيرها من خلال إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني بكل مؤسساته من منظمة تحرير وسلطة وحكومة وأحزاب ووحدة وطنية حقيقية يشارك فيها الجميع من خلال الانتخابات، التي تتهرب منها الطبقة السياسية.
Ibrahemibrach1@gmail.com