في مثل هذا الشهر قبل عشرة سنوات كتبنا مقالاً تحت عنوان(في ظل الانقسام لا بديل عن المفاوضات إلا المفاوضات) والآن بات من الواضح بعد هذه السنوات العجاف أن مسار المفاوضات والتسوية السياسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين سينشط مجدداً، ليس لأن الرئيس الأمريكي الجديد بايدن ونائبه السيدة كامالا هاريس أعلنوا عن نيتهم عودة الحوار مع القيادة الفلسطينية والعودة لخيار حل الدولتين أو لأن شروط ومتطلبات السلام العادل متوفرة الآن، بل لأنه خلال عشرة سنوات من وقف المفاوضات تزايدت وتيرة الاستيطان وتدهورت الأوضاع الداخلية، ولأنه في ظل الانقسام وحالة الضعف التي تعتري النظام السياسي بشكل عام، وتوقيع حركة حماس لهدنة بينها وبين إسرائيل وخروج المقاومة المسلحة في غزة عن سياقها الوطني، والمتغيرات في المحيط العربي وخصوصاً تزايد التطبيع مع إسرائيل، …، لكل ذلك فلا مفر من العودة لخيار التسوية السياسية والمفاوضات حتى كشر لا بد منه، والمهم أو التحدي هو كيف لا تكون المفاوضات عبثية كسابقاتها؟.
نعم جرب الفلسطينيون المفاوضات مع إسرائيل منذ مدريد1991 إلى 2010 ونتذكر هنا أن المرحوم أبو عمار ومنذ خطابه في الأمم المتحدة عام1974 حيث خاطب العالم قائلاً: “جئتكم أحمل غصن الزيتون بيد وبندقية المقاتل في اليد الأخرى” وحتى وفاته عام 2004 بتسميمه من طرف إسرائيل التي تفاوض معها لعقدين من الزمن، لم يتوقف عن السعي للسلام وكان يفاوض دون أن يساوم على الحقوق الوطنية أو على الحق بالمقاومة، كما واصل الرئيس أبو مازن المفاوضات حتى عام 2010حيث أوقفها عندما تأكد أن المفاوضات عبثية ولا مرجعية واضحة لها وكانت إسرائيل تستغلها لمواصلة الاستيطان.
المفاوضات أو التفاوض مع عدو مثل الكيان الصهيوني ليس الطريق الأمثل والأفضل بالمطلق أو أن العودة للمفاوضات ستؤدي حتماً لقيام الدولة الفلسطينية الموعودة، وفي ظني أن احتمالات فشلها أقوى من فرص نجاحها لأن المعطيات والأوضاع الآن أكثر سوءاً بالنسبة للفلسطينيين مما كانت عليه خلال سنوات المفاوضات السابقة ولأن إدارة بايدن معنية بإدارة الأزمة أو الصراع وليس بحله، إلا أن التفاوض مطلب دولي لا يمكن لمنظمة التحرير أن تدير له الظهر إلى ما لا نهاية، ولأن الفلسطينيين لم يبلورا نهجاً بديلا متوافق عليه لنهج المفاوضات والتسوية السياسية، ولذلك فإن أفضل ما سيحصل عليه الفلسطينيون إذا ما وظفوا المفاوضات بحنكة هو تعطيل المشاريع الاستيطانية ومنحهم فرصة لتصحيح أوضاعهم الداخلية.
المفاوضات بحد ذاتها ليست جريمة أو خطأ، فكل الصراعات والحروب بما فيها حركات التحرر الوطني عرفت مفاوضات بين أطرافها خلال الحرب أو تتويجاً لها، ولم يكن الخلل سابقاً في مبدأ المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين بل لأسباب متعددة، تتحمل المسؤولية الأكبر عن الفشل إسرائيل ومن يرعى عملية التفاوض بالإضافة إلى خلل في استراتيجية وآلية إدارة الجانب الفلسطيني للمفاوضات.
كان لدى إسرائيل استراتيجية للمفاوضات أساسها المماطلة وكسب الوقت، أما عند الجانب الفلسطيني فغابت الاستراتيجية والرؤية وانقسموا حول مبدأ التفاوض، وحول مَن يفاوض؟ وكيف يفاوض؟ وعلى ماذا يتم التفاوض؟ وهدف التفاوض؟ كما كان سوء فهم وتقدير لفلسفة (الحياة مفاوضات).
التفاوض مع العدو لا يعني التفريط أو التنازل ما دام هناك رؤية واضحة لمرجعية المفاوضات وأهدافها، والمفاوضات لا تُسقط استمرار حق الشعب الفلسطيني بمقاومة الاحتلال ولا تفرض على الأحزاب الأخرى تغيير برامجها السياسية خلال عملية المفاوضات، والمفاوضات لا تعني نهاية الصراع مع العدو أو التفريط بالحقوق الوطنية المتوافَق عليها، كما أنها لا تعني السلام مع إسرائيل حيث لا يمكن أن نتحدث عن سلام مع إسرائيل إلا في حالة إنجاز الحد الأدنى من الحقوق الوطنية المشروعة وهو الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الضفة الغربية والقدس وغزة وتوقيع اتفاقية سلام نهائية يوافق عليها الشعب الفلسطيني باستفتاء شعبي.
كنا نأمل أن ينتهي الانقسام ويتم إجراء الانتخابات العامة بكافة مستوياتها والقيادة الجديدة تصبح صاحبة القرار النهائي في وضع الاستراتيجية الوطنية المطلوبة بشأن المفاوضات، وما زالت الفرصة سانحة لأن تفعيل مسار التسوية السياسية والعودة لطاولة المفاوضات لن يتم إلا بعد عدة أشهر، والجميع بات يعرف أن لا مفر من العودة لطاولة المفاوضات وخيار التسوية السياسية.
ولكن وإن لم يحدث ما يريده الشعب من انتخابات ووحدة وطنية قبل بدء المفاوضات، وما دامت كل الأحزاب السياسية –باستثناء الجهاد الإسلامي- ارتضت خيار حل الدولتين، وكل ما نسمعه منها من انتقادات ليس على مبدأ حل الدولتين، بل على أسلوب إدارة المنظمة للعملية التفاوضية وعلاقة المفاوضات بحق المقاومة بالإضافة إلى خلافات حول السلطة والحكومة، وحيث لا أحد يعتقد بأن حل الدولتين في ظل الأوضاع الراهنة سيكون من خلال مواجهة وحرب مع إسرائيل تُحرر أراضي الدولة الموعودة بالقوة، فلماذا لا يتم تشكيل وفد تفاوضي جديد تشارك فيه كل القوى السياسية يسبقه لقاء فصائلي مخصص فقط لوضع استراتيجية تفاوضية تتضمن الأشخاص المكلفين بالتفاوض وأسس ومرجعية المفاوضات وأهدافها وسقف زمني محدد ؟ أو تفويض الرئيس أبو مازن من طرف كل الأحزاب للتفاوض أو تشكيل وفد المفاوضات باسم كل الشعب الفلسطيني مع وضع محددات وضوابط للمفاوضات؟
مع اكتشاف مأزق الطرح الذي يقول بأن المقاومة بديل عن المفاوضات دون أن يكون هناك أية استراتيجية وطنية للمقاومة، ومع التأكيد بأن حق المقاومة لا يتعارض مع مبدأ المفاوضات لأن الأولى حق طبيعي للشعب الفلسطيني ولكل الشعوب الخاضعة للاحتلال كما تعترف به كل الشرائع الدينية والوضعية والثانية إحدى الآليات أو الطرق المساعِدة على تحقيق ذلك، وإلى أن تتوفر استراتيجية وطنية و شروط مواتية للمقاومة المسلحة، فلا بأس من خوض معركة المفاوضات بعقلانية مع استمرار المقاومة الشعبية كعامل مساعد للوفد الوطني المشتَرَك للمفاوضات.
نتمنى إعمال العقل والاستعداد لمفاوضات قادمة لا مفر منها سواء في إطار مؤتمر دولي للسلام كما يطالب الرئيس أبو مازن أو مفاوضات ثنائية برعاية دولية، ومعركة المفاوضات في بعض المنعطفات التاريخية تشكل تحدياً ومهمة نضالية لا تقل أهمية عن المعارك العسكرية، خصوصا أن المفاوضات القادمة لن تكون على أساس الشروط الفلسطينية بل سيكون لإدارة بايدن وإسرائيل شروطهم الخاصة للعودة لطاولة المفاوضات.
Ibrahemibrach1@gmail.com