أتى العدوان الصهيوني الأخير على قطاع غزة، متزامنا مع دخول اليوم السابع من شهر محرّم، وذكرى عاشوراء الإمام الحسين عليه السلام، في صورة شبيهة لما حصل في تلك الأيام العصيبة، من حصار وله ولأهل بيته واستعداد لقتاله، ولئن استبق العدو الصهيوني يوم العاشر ببدء عدوانه على الشعب الفلسطيني في غزّة، فقد برهن على أنّ نزعة انتهاك الحرمات متأصّلة في مبغضي أهل الإيمان: (إنّ اشدّ عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) (1)
عدوان لم يستمرّ ليس لأن العدوّ الصهيوني أراد إنهاءه بسرعة، فعقليته تقف عند ما يحصل له من ردود أفعال داخليّة ودّولية، ولو أمكن له تجاوز كل العوائق، وتيسر له القضاء على الشعب الفلسطيني، لاستمر في عدوانه إلى النهاية، فمن حيث الوضع الداخلي للكيان الغاصب شكل ردّ المجاهدين الفلسطينيين برشقاتهم الصاروخية العديدة التي فاقت 950 صاروخا(1)، من طرف حركة الجهاد الإسلامي، أساس إحجام حكومة الكيان عن مواصلة العدوان، والإذعان لهدنة مقترحة من مصر وقطر، بعد الضرر البالغ الذي لحق بالقطاع السياحي بقيّة هذا الصيف.
أمّا من حيث ردود الأفعال الدّولية، فليست بذات القيمة الاعتبارية للكيان الصهيوني، والإدارة الأمريكية تسنده في كل عدوان يقوم به، ولا تأبه لمن احتج وندد من حكومات دول العالم، والوساطات التي اضطلعت بها مصر وقطر، هي مجرّد نقل مقترحات من قادة الجهاد إلى حكومة الكيان الغاصب، والعكس بالعكس، وهذا ليس فضلا يحسب على أيّ طرف منهما، بقدر ما هو مظهر تطبيعي سيء لنظام مصري كان معدودا في طليعة الدّول العربية المتبنّية للقضية الفلسطينية، ثم لم يلبث أن بادر بالخروج عن تعهداته بعد وفاة الرئيس جمال عبد النّاصر، وتولّي الرئيس الخائن أنور السادات، وقيامه المفاجئ بزيارة مقر الكنيست الصهيوني.(2)
وليست هذه هي المرّة الأولى ولا الأخيرة التي يذعن فيها الكيان الغاصب للهدنة، تحت وقع الصواريخ المتساقطة على مستوطناته، وآثارها السيئة على مستوطنيه واقتصاده، فقد أذعنت حكومته مرات عديدة إلى إرادة المقاومة الفلسطينية، بوقف اعتداءاته في 2009 و 2012 و2014 (3) ولولا همّة واستبسال طلائع الشعب الفلسطيني مؤلفة من فصائل مقاومته، لما أمكن وقف عربدة آلته العسكرية، المدجّجة بمختلف أنواع الأسلحة الأمريكية الحديثة، وتقنية الصواريخ هذه إيرانية المصدر، هي ضمن مخططات وجهود بذلتها الحكومة الإيرانية، من أجل دعم مقاومة الشعب الفلسطيني، في كفاحه ضد غاصبي أرضه ومشرّدي شعبه.
موقف إيران الثابت من قضية فلسطين، لم يتغيّر منذ إعلانه من طرف الإمام الخميني رضوان الله عليه، بعد انتصار ثورتها سنة 1979، رغم العقوبات العديدة والقاسية التي لحقتها من أمريكا، بل زادتها إصرارا على مواصلة نفس نهج مساندة ودعم الفصائل الفلسطينية المقاومة بكل ما يلزمها من وسائل مادية وعسكرية، في سبيل نيل حقوق شعبها كاملة غير منقوصة، كما تدعوا اليه الدول العربية بمشروعها الخيانيّ حلّ الدولتين (4)
وحلّ الدّولتين حلّ أعرج لاحت عاهته منذ أن اصطف إلى جانبه عملاء العرب بحكوماتهم وجامعاتهم باستثناء سوريا ولبنان والعراق والجزائر، أما البقية فوراء مشروع الجامعة العربية، الذي قدم إلى منظمة الأمم المتحدة، لكنّه في حقيقة الأمر مشروع من عجز عن استرجاع حقوقه كاملة، فسعى إلى التفريط فيها بمنتهى الحمق والغباء، ومثال ذلك حكومة السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عبّاس، التي أكملت ما عجز عنه الكيان الصهيوني في قمع المقاومين، وتقديم احداثياتهم إلى أجهزة المخابرات الصهيوني الأمنية والعسكرية لتصفيتهم.
تصوّروا كيف يمكن ان يتعايش الضحية مع الجلاد، شعب فلسطيني اعزل مقابل مستوطنين مدججين بمختلف انواع الاسلحة، مسندين بقواتهم العسكرية والأمنية، وعملاء من بني جلدتهم، مازالوا يعيشون في الضفة والقطاع، قد بدا فيهم القتل بدم بارد، ولا رادع لهم فيما يقومون به من انتهاكات، داخل القدس ومسجدها الأقصى وأحيائها التاريخية، فكيف يستقيم حلّ الدولتين، إلا أن تبقى الحال على ما هي عليه، من سلطة تعطى صفة الدّولة، لتواصل أسلوبها المتواطئ مع العدوّ، ولا أعتقد أن عموم الشعب الفلسطيني سيقبل بمهزلة كهذه.
لقد بلغ وعي الشعب الفلسطيني مبلغا، لم يعد بالإمكان مغالطته بمجرّد شعارات جوفاء، فقد تأكّد ان سلطة عباس لا يمكنها ان تقدّم له شيئا من آماله في التحرر من عدوّه المتحل، بل هي في دورها الأساسي الذي رسمته أمريكا لها، عرقلة كل عمل جهادي مقاوم في الضفة والقطاع، لينتهي بالشعب حال اليأس من تحرّره، فيقبل الحلّ التعيس المفرّط في كامل حقوقه، وفيما تتسارع حركة التطبيع، الظاهرة سافرة بلا قناع، بين حكومات عربية كانت من قبل مطبّعة في السّرّ، حتى ان رئيس لجنة القدس الملك الحسن الثاني، كان على رأس هيئة تخليصها من غاصبيها، بينما هو من أوائل المطبعين معهم.(5)
الشعب الفلسطيني مدرك تماما اليوم أنّ عليه أن يميّز الطيب من الخبيث بشأن قضيّته، من يقف معه حقّا وصدقا، ممن يخدعه بمعسول الكلام، فلا يرى منه سوى الشجب والتنديد والاستنكار، في بيانات لا تسمن ولا تغني من جوع، وقد عرف منذ انتفاضته الأولى من هو الصّديق المواسي والمتضامن حقّا من الدّعيّ بالمناصرة، ولا وجه له في ذلك، سوى الكلام الذي لا يقدّم له شيئا ولا يؤخّر عنه شيئا، القرار الفلسطيني الأول والأخير عبّر عنه شرفاء فلسطين، وقدّموا لأجله فلذاك أكبادهم وخير رجالهم: مقاومة لا استسلام ولا مساومة.
المصادر
1 – من منظور حِسابات الرّبح والخسارة: حركة “الجهاد الإسلامي” خرجت مُنتصرة.. ودولة الاحتِلال فقدت أهم أعمدة وجودها.. أمّا “حماس” فالمُصابُ كبير
https://www.raialyoum.com/
2 – زيارة السادات لإسرائيل https://ar.wikipedia.org/wiki/1977
3 – العدوان على غزة https://ar.wikipedia.org/wiki/
4 – حلّ الدولتين https://ar.wikipedia.org/wiki/
5 – لجنة القدس https://ar.wikipedia.org/wiki/