بقلم: محمد الرصافي المقداد |
تعذّرُ أمريكا في خروجها الأحادي الجانب، من الإتّفاق النووي، المبرم مع الدول 5+1، على أنه اتّفاق ناقص، ويحتاج إلى مزيد من التّوسعة في بنوده، ليشمل مجالات أخرى، تتعلّق بالمجال الدّفاعي ( العسكري)، ومنها الصّواريخ البالستية، التي تثير قلقها وإنزعاج حلفائها، وتراه برنامجا يشكّل تهديدا لها ولحلفائها، وتتمنى إخضاع إيران لتحديد مداه، والنزول عند رغبتها، بفرض عقوبات اقتصادية عليها، تعتبر الأشد، منذ أن بدأت الإدارة الأمريكية فرض أوّلها.
ظاهر التّعذّر الأمريكي، لمن لا يعرف أسلوبها في التعامل الدبلوماسي والعسكري، ولا يراها بمنظار التجربة والخبرة بحالها ماضيا وحاضرا- ولا أعتقد أن مستقبلها سيكون بأفضل مما بدر منها – ودوافعها التي ألجأتها إلى اتّخاذ مثل تلك المواقف كما عبّرت عنه حماية مصالحها – وإن كانت غير معذورة فيما قامت به إلى حد الأن – مدانة بكل المقاييس، ضد الدول الحرّة، كإيران، وكوبا، وفنزويلا، وكوريا الشمالية، حتى أن روسيا والصين لم تسلما من تحرّشاتها ، دون اعتبار لما قد تنجر عليه مواقفها، من تداعيات خطيرة على السلم العالمي، وهي بنظر كل منصف إجراءات تعسّفية، خارقة للقانون الدّولي، ومتعدّية على حقوق كل الدّول تقريبا، حتى أولئك الذين تعتبرهم حلفاءها كتركيا.
إنّ فرض عقوبات عشوائية أحادية الجانب، لا تعبر عن حكمة، وتنمّ عن منطق استكباري، أصبح يرسم ملامح دولة طغى عليها الإستكبار في معاملاتها، بحيث لم تعد ترى شيئا غير نفسها المتعالية، ضاربة عرض الحائط، بكل القوانين التي أمضت عليها، مستخفّة بجميع الدول، ولا يبدو ذلك من باب الإعتداد بالنفس، بقدر ما يرى كردّات فعل، تخفي توجّسا وخوفا من حتميّة تاريخية قادمة، آل إليها حال كل مستكبر على الأرض.
نظرة التّعالي والإستكبار، التي طغت على السياسة الأمريكية، هي التي أعطت انطباعا سيئا عنها، وصناعة مواقفها، جاءت بناء على ذلك المنطق، وهي ليست بمعزل عن اللّوبي الصّهيوني النّافذ فيها، ففي سجلّها التاريخي نماذج من الإنتهاكات، استهدفت شعوبا بأكملها، كما حصل للشعب الفيتنامي، والكمبودي، والأفغاني، والفلسطيني، والعراقي، والسوري، واليمني، وليست المكسيك بمستثناة من ذلك الحيف، بتقليعة جدار ترامب، المزمع انشاؤه على الحدود المكسيكية الأمريكية، ولا دول أمريكا اللاتينية اليسارية الخارجة عن طوعها، والمتآمرة عليها بالتحريض، وقلب أنظمة حكمها، وما حصل في البرازيل، بتدبير أمريكي من تغيير سياسي، حوّل البرازيل من نظام ذو ميول يسارية، الى آخر مناقض ومعاد لها تماما، كما جاء في تعابير رئيسها الجديد (جايير بولسونارو)، ومساعي أمريكا، لتغيير أو قلب نظم الحكم اليسارية في أمريكا اللاتينية، لن تتوقف طالما بقيت دولة يسارية واحدة تحكم فيها، وليس عداءها لليسار نابع عن مبدأ، بل إنّ الساسة الأمريكيين يعتبرون كل نظام خارج عن طوعهم، مهما كانت عقيدته عدوّ، فيتعاملون معه على ذلك الأساس.
أمريكا لا تستخلص الدروس من أخطائها القديمة وتصر على التّمادي فيها، وهدفها الغير معلن، منع الدّول من النمو واللحاق بها بكل الطرق، وإن قدّمت دعما أو مساهمة، لمن تعتبرها خاضعة أو تابعة لها، فهو لا يتعدّى كونه مسكّنا لداء اقتصادي، ينخر نظام تلك الدولة، ويهدد استمرارها في العمالة.
ما يغيظ أمريكا من إيران، أنها خرجت عن طوعها قسرا، بثورة شعبية عارمة، فلم تتمكن من إحباطها بثقلها الإستخباري والعسكري، على الرغم من كل ما قامت به، من أجل الحفاظ على عرش عميلها الشاه، وما يثيرها أكثر أن تلك الثورة، الفريدة من نوعها، قيادة وتأسيسا ونجاحا، قد أسفرت عن قيام نظام اسلامي، رفع شعارا لمن يسبق لغيره أن تجرّأ على إعلانه، ( الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل)، هذا الشعار الذي له دلالاته الفكرية والعقائدية الإسلامية الواضحة، في التّصدي للظلم ومحاربته، مهما كان مصدره.
وما يربك حسابات أمريكا، أنها إلى اليوم لم ترسو سفينة عدائها لإيران على برّ، يريحها من عناء تنقلها، فلا منطق الاستقواء على ايران، بفرض عقوبات اقتصادية عليها، أفلح في تحقيق شيء، يكبح جماحها في النموّ والتقدّم العلمي والتقني، ولا تحريض الدول على اتّباع نسقها في العداء، حدّ من نجاح النظام الإسلامي بدبلوماسيته الذّكية، في التعامل مع كل طارئ، لذلك فإنه في مقابل نجاح إيران في معالجة ملفّاتها الداخلية والخارجية، والنّسق السّريع الذي حقّقته في نموّها، أصبحنا نشهد ارتجالا أمريكيا، يكشف مدى الإرباك الحاصل في سياستها تجاه إيران.
وعندما نقرأ عن التقدّم العلمي الذي حققته إيران، وتفوّقها الذي أحرزته على كثير من الدول، التي كان لها سبق في هذا المجال الحيوي والهام، نفهم من جانب، لماذا تصرّ أمريكا على التّضييق على إيران، سياسيا واقتصاديا وإعلاميا، فمعدّل النموّ العلمي في إيران، أشّر إلى تبوّئها مرتبة أولى، في انتاجها للمضامين العلمية، على الساحة الدّولية، بمعدّل 18% وهو معدّل قياسي مستمرّ منذ 5 سنوات، مثبتا للنظام الإسلامي الإيراني، نجاحا في مخططاته العلمية والتنمويّة – رغم آثار الحضر السلبيّة – والإرتقاء بالبلاد إلى مصاف متقدّم، في مجالات علمية وتقنية، لم يكن الشعب الإيراني يحلم بها، لو بقي تحت حكم العمالة والتّبعية لأمريكا والغرب.
ولولا العقوبات الأمريكية الظالمة، لحققت إيران اليوم نموّا أكبر، ونجاحات أكثر، في جميع المجالات العلمية والتقنية، والعرقلة الحاصلة، وإن بلغت أشدّها، فإنها تبقى عاجزة عن زحزحة إيران، من مقامها الذي تبوّأته ضمن الدول النامية، وأن حلم إعادتها إلى المربع الأول الذي كانت فيه، قد تبخّرت آماله أمريكيا وصهيونيا.
ثلاث عوامل أساسية، حالت بين أمريكا وما تصبو إليه بشأن إيران، كل واحدة منها ليس بإمكانها أن تجاوزها:
1 – كفاءة وحكمة القيادة، وشرعيتها المستمدّة من الجماهير. 2 – القاعدة الشعبية والطّوق الجماهيري القويّ، الذي شكل حاضن النظام الإسلامي، وعنصرا مهما في حمايته. 3 – العون والمدد الغيبي الذي تتجاهله أمريكا، والذي سيكون الفيصل في أي صراع قادم.
وتبدو إيران بعد مسيرة 40 سنة من الصمود والمقاومة، وتحقيق الإنجازات المتنوعة، ثابتة لم تغيّر موقفها من قضاياها، ولا تراجعت عمّا أكدت التزامها به، منذ أن استلم النظام الإسلامي مقاليد الحكم بإرادة شعبية، حطمت كل التوقّعات في احتضانه والدفاع عنه، وتبدو أمريكا ومن تبعها في موقف السفيه، الذي لا تعبّر حركاته عن رجحان عقل، وإنما هي حماقات متتالية، ليس بإمكانها أن تغيّر شيئا من حقيقة إيران، وسلامة مواقفها وأهدافها.