قد لا يجد القارئ لسياسات دول العالم عناء، في الدّلالة على أنها سياسات مزدوجة المعايير، ذات أوجُهٍ وأبعاد متعدّدة مؤتلفة بعض الأحيان، ومتناقضة في أغلبها، بدأ من الدّول الكبرى التي تُعْتَبَرُ المثال السّيء الذي نسجت على منواله أغلب الدّول الصغرى، أو السائرة في طريق النموّ – وإن كنت غير مقتنع بهذا التصنيف الكاذب – ومن أصطُلِح عليها بدول العالم الثالث، وأغلب هذه الدول ترى في الغرب أمثلة صالحة للتقليد، بدأ من قوانينها ونظُمِها والنسج على منوالهما، وإنتهاء بتصوّرها النّاتج عن ثقافاتها المستمدّة منه، أنّ في الإقتداء به سبيلا للإقتراب من مراتبها واللحاق بها.
العجب ليس في دول الغرب، فتاريخهم شاهد عليهم، مليء بالتجاوزات الإنتهاكات، يكفيهم ما عرى به بعضهم البعض الآخر، لا يزالون يعتبرونها أعمالا جائزة في بلدان بعيدة عن مدنيّتهم وترتقي إلى إنسانيتهم، فهُمْ على هذه الحال عنصريّون، لا يمكنهم أن يخدعونا بشعاراتهم الرّنّانة، وإن كانوا قد فرضوا على مستعمراتهم القديمة، قبول تبعيّة متواصلة، مقابل استقلالات صورية، لا تزال الاحتفالات بها متواصلة، بلدان مقسمة بين تجمّع فرنكفوني وآخر كومنولث، بل إنّ العجب كامن في بقاء هذه الدّول ملتزمة بانتماءاتها الإستعمارية، في شكل عبودية معاصرة، تخضع فيها الشعوب الضعيفة للقويّة، ولا يمكنها فكاك أسرها منها.
لقد حطمت دول الغرب بازدواجية سياساتها، جميع ما تمنطقت به من شعارات برّاقة بخصوص الإنسان، وحقوقه في أن يكون حرّا في اختيار طريقه ونهج سياسته، وكل ما نراه اليوم من منظمات حقوقية أمميّة أو مستقلّة، قد سيطرت عليها إرادة غربية قويّة، في هيمنة سياسية على قراراتها وتقاريرها، فلا مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، بمقدوره أن يصلح ما أفسدته سياسات أمريكا وحلفاءها من دول الغرب، وعملاءها من انظمة العرب، ولا مجلس الأمن الدّولي الذي لم يصدر منه قرار صائب إلى اليوم، من شأنه أن يثبت به مصداقيته، وإنّما كانت قراراته أمريكية غربية صهيونية، وفي أحسن الأحوال يخرج بلا قرار ملزم، تكون الصين وروسيا صاحبتي الفيتو قد أسقطتاه.
إنّ ما تصدره أمريكا كل سنة من تقارير بشأن حقوق الانسان في دول العالم وتتخذ منه ذريعة لإطلاق أبواق دعايته مهاجمة دولا بعينها، كالصين وروسيا وإيران وفنزويلا وكوبا ونيكاراغوا، بل وكل بلد متنصّل منها رافض سياساتها، هو أسلوب وقح في اتهام غيرها بانتهاك حقوق الانسان في بلدانهم، بينما تأسست هي برمّتها على الاستهانة بتلك الحقوق، وتبعها على ذلك الإتحاد الأوروبي الذي أصدر نظام عقوبات كان حريّا بدوله الاستعمارية أن تتسلّط عليها.
جاء في موقع أوروبي تعبير عن انشغال الإتحاد الأوروبي بانتهاك حقوق الإنسان في العالم قوله: (تقع انتهاكات وتجاوزات خطيرة لحقوق الإنسان في أنحاء كثيرة من العالم – في كثير من الأحيان تمرّ دون أي عواقب على الجناة، الإتحاد الأوروبي غير مستعد للوقوف مكتوف الأيدي، بينما تُرتكب انتهاكات وتجاوزات جسيمة لحقوق الإنسان، يُعد إنشاء نظام عقوبات الإتحاد الأوروبي العالمي لحقوق الإنسان (EUGHRSR) مبادرة تاريخية، تؤكد عزم الإتحاد الأوروبي، على تعزيز دوره في التصدي للانتهاكات، والتجاوزات الجسيمة لحقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم(.(1)
سلوك فيه كثير من النفاق السياسي اعتمدته أمريكا ومعها دول الغرب(2)، يرى الانتهاكات في مكان ما يناسبه أن يتخذ موقفا منها، بينما يغضّ الطّرف عنها في أمكنة أخرى كالبرازيل والسلفادور والمكسيك، وكولومبيا، ويعطيها في أحسن الحالات اعتبارات أخرى غير حقوقية، كما هي حال الشعب الفلسطيني، الذي يعاني منذ أكثر من 74 عاما، من جرائم العصابات الصهيونية، والشعب اليمني الذي يُصبّ على رأس أهله كل يوم، عشرات القنابل والصواريخ، فيسقط من أبنائه ضحايا بين قتلى وجرحى، وشعوب أخرى تكافح من أجل الخروج من الهيمنة الأمريكية الغربية، فحقوق الإنسان لدى دول الغرب، مجرّد مصالح وترتيبات تبنى عليها مواقفهم، بحسب ما تقتضيه من تقلّب.
سياسات الغرب – في أوّل أهدافها – تدفعنا دفعا إلى التنكر لديننا ومبادئنا، على أساس أنهما متخلّفان ولا يواكبان العصر، وبهرُجُ ما وصلته دوله من تحرر، يبدو نتيجة تلك السياسة المعادية للإسلام خصوصا، وكل قيمة إنسانية حقيقية عموما، والهدف الذي تريد أمريكا ودول الغرب الوصول إليه، هو جرنا إلى رذيلة مجتمعاته، التي أصبحت ملازمة لدعوته، وعنوانا مزيّفا لنهضته، ولأجل بلوغ هذه الاهداف تحالفت المسيحية العنصرية مع الصهيونية المتطرفة لتشكلا محورا عدائيا للإسلام والمسلمين، يعمل على جرّ دوله ومجتمعاته، إلى سقوط أخلاقي لا قيام منه.
لقد كان من الأجدى لأمريكا أن تلتفت لانتهاكات حقوق الإنسان والتمييز العنصري في ولاياتها، من طرف عناصرها الأمنية وبين أجناس مجتمعاتها، عوض أن تتظاهر للعالم، بأنها الراعي لتلك الحقوق بلا أثر حقيقي، وعودتها إلى جادّة معالجة مشاكلها الداخلية، والاهتمام بحلّها لتجنيب مواطنيها مزيدا من التمييز والإزدراء، وكان لها ولحلفائها الإستعماريين الغربيين، أن تخجل من سجلّها التاريخي لانتهاكات، ليس من السّهل إحصاءها لأنها كثيرة، بحيث شملت دولا وشعوبا كثيرة، في آسيا وأفريقيا وأمريكا.
إنّ القبول بأحكام دول الغرب بشأن حقوق الانسان، يعتبر تعسّفا لتلك الحقوق وخيانة لمبادئها التي خرج منها سابقا وتنصّل منها لاحقا، وإنّ آخر من يمكن اعتباره راعيا لحقوق الإنسان، هي دول الغرب وسياساتها المتأرجحة بين موقفين متناقضين، ينمّ عن نفاق متأصّل في حكوماتها حيث لا فرق بين اليميني منها والمعتدل، بين الديمقراطي والجمهوري، مسمّيات سياسية مخدوعة فيها شعوبهم، وليس على شعوبنا سوى الوعي، بأن الغرب هو مصدر بلاءنا، وسبب تخلّفنا ونهب خيراتنا وضياع حقوقنا، وطمع حكوماتنا في مساعداته، سيزيدنا بعدا عن إدراك الطريق الأقرب سلوكا، نحو التحرر الحقيقي من تبعية لا جدوى منها.
من لا يدرك إلى اليوم فداحة ما ارتكبه الغربيون أثناء الحرب العالمية الثانية، بتقديم رجال مستعمراتهم في أفريقيا، وقودا للحرب في الصفوف الأولى، ولا حديث عن سنغاليين وتونسيين جزائريين ومغاربة أسهموا بشكل فعال في الدّفاع عن فرنسا وإسقاط النازية قدّموا فيها عشرات آلاف القتلى (3)، ليس بمقدوره فهم سياسة أكباش فداء الغرب لا تزال متواصلة إلى اليوم، وفي هذا العصر تختبئ دول الغرب بما فيهم زعيمتهم أمريكا، وراء أساليب جبانة، عادة ما يلجأون إليها تنفيذا لمخططاتهم الخبيثة، وتكون ضحاياها دول الإستضعاف، التي يعتبرونها في حساباتهم مغنما، ينهبون منها ما يوطد سياساتهم، ويقوي مراكز هيمنتهم، لتستمر في أفعالهم الغير إنسانية إنتهاكا لحقوق الشعوب، في التحرر الحقيقي من ربقتهم، وليت هذه الشعوب تفهم وتعي جيّدا، أن الدول الغربية لن تتخلى عن أسلوبها الخبيث الذي بقيت متشبّثة به، مهما بلغت بها درجة إنتهاب وإغتنام الشعوب، ولن يُزيل نهمَها ويقطع استغلالها، سوى وعي الشعوب، واجبار حكوماتها على مراجعة سياسات التبعيّة التي تنتهجها عادة، ولم تتخلى عنها إلى اليوم، فليس كل ما يقوله ساسة الغرب دليلا على حسن نوايا دوله، وكل ما يقوم به ويقدّمه لدولنا ليس لسواد عيونها.
المصادر
1 – أسئلة وأجوبة: نظام عقوبات الاتحاد الأوروبي العالمي لحقوق الإنسان
https://eeas.europa.eu/headquarters/headquarters-homepage/90119/
2 – الولايات المتحدة أحداث عام 2020
https://www.hrw.org/ar/world-report/altqryr-alalmy-2021/country-chapters/377523
3 – المحاربون الأفارقة والعرب الذين قتلهم النّازيون بفرنسا
https://www.mc-doualiya.com/articles/20200623-