يعد مفهوم الوعي أحد المفاهيم المركزية في تراث الفكر الإنساني، فقد تناولته الدراسات الاجتماعية بمختلف حقولها وتخصصاتها العلمية بشكل كبير، نظراً لأن مفهوم الوعي قديم قدم الفكر ذاته، وعلى اعتبار أن الفكر الإنساني يعبر عن أرقى شكل من أشكال الوعي، فقد حظي مفهوم الوعي بأهمية كبيرة من الفلاسفة والعلماء لدرجة أن مشكلات الفلسفة الحديثة تكاد تنحصر في المشكلات الخاصة بالوعي.
ونظراً لأهمية مفهوم الوعي فيمكننا تعريفه بشكل مبسط بأنه «إدراك المرء لذاته ولما يحيط به إدراكاً مباشراً وهو أساس كل معرفة».. ووفقاً لهذا التعريف فإن هناك ثلاثة مكونات للوعي هي: المكون المعرفي وهو المعرفة التي يحصل عليها المرء من مؤسسات التنشئة الاجتماعية المختلفة، ثم المكون الموقفي وهو الموقف الذي يتخذه المرء من هذه المعرفة سواء بالإيجاب أو السلب، وأخيراً المكون السلوكي وهو السلوك الذي يتحدد بناء على الموقف المُتخذ من المعرفة المكتسبة، وهذه المكونات الثلاثة تشكل بنية الوعي لدى الأفراد داخل المجتمع.
وإذا كانت المعرفة هي المكون الأول للوعي الإنساني فلا بد من التركيز على مصادر الحصول على هذه المعرفة، والمؤسسات المنوط بها مد الإنسان بهذه المعرفة، وبما أنه قد أصبح من المعروف والمستقر عليه في الفكر الإنساني أن الإنسان كائن اجتماعي، حيث يولد كصفحة بيضاء يتم الكتابة عليها وتشكيلها عبر مؤسسات التنشئة الاجتماعية المختلفة، فهنا تبرز مؤسسات التنشئة الأولية مثل الأسرة كمؤسسة أولى للتنشئة الاجتماعية، تليها المدرسة ثم الجامعة، هذا إلى جانب بعض المؤسسات الأخرى الثانوية كالمؤسسة الدينية (المسجد- الكنيسة- المعبد) والمؤسسات الترفيهية كالأندية (الاجتماعية- الثقافية- الرياضية) ومؤسسات المجتمع المدني (الجمعيات الأهلية- النقابات المهنية- الأحزاب السياسية) هذا إلى جانب وسائل الإعلام.
ولعبت هذه المؤسسات والأجهزة تاريخياً دوراً محورياً في تشكيل وعي الإنسان عبر مده بالمعرفة اللازمة لفهم ما يدور حوله وتحديد موقفه وبالتالي سلوكه تجاه مواقف الحياة المختلفة، لكن وللأسف الشديد بدأت هذه المؤسسات والأجهزة الأولية (الأسرة- المدرسة- الجامعة) تفقد الكثير من دورها داخل مجتمعاتنا، فلم تعد الأسرة تقوم بدورها الكامل في عملية التنشئة الاجتماعية نتيجة لانشغال الوالدين عن القيام بالدور المنوط بهما في هذا الإطار فلم يعد الطفل يتلقى معارفه الأساسية من الأسرة كما كان في الماضي، والأمر نفسه فيما يتعلق بالمدرسة التي تدهورت أحوالها إلى حد كبير وفقدت أحد أهم أدوارها وهو المشاركة في تشكيل وعي الأبناء عبر المصادر المتنوعة للمعرفة الإنسانية وأصبحت وسيلة للتلقين والحفظ، وكذلك الجامعة التي لم تعد تمد الطلاب إلا بمجموعة من المعارف التخصصية يتم بها حشو أدمغة الطلاب دون تحفيزهم على إعمال العقل.
وما حدث لمؤسسات وأجهزة تشكيل الوعي الأولية قد طال مؤسسات تشكيل الوعي الثانوية، فلم تعد المؤسسات الترفيهية تقوم بأدوارها في هذا الشأن، وكذلك المؤسسات الدينية التي لعب بعضها أدواراً سلبية للغاية في نشر الأفكار المتطرفة، أما مؤسسات المجتمع المدني فيكاد دورها يختفي.
وفي ظل هذا الغياب والتراجع لمؤسسات وأجهزة التنشئة التقليدية بدأ الإعلام يأخذ دوراً أكبر في عملية تشكيل الوعي، حيث أصبح الوسيلة الرئيسية التي يستمد منها الإنسان معظم معارفه الأساسية في كافة مناحي الحياة.
وبالطبع أدركت القوى الاستعمارية بلبوسها الجديد أهمية هذه الوسيلة فبدأت بالسيطرة عليها لكي تتحكم في مصير المجتمعات، فإذا كانت وسائل الإعلام هي المتحكم الرئيسي في عملية تشكيل وعي الإنسان في العصر الحديث فعندما يتم السيطرة على هذه الوسائل يمكنها بسهولة تزييف وعيه عبر التحكم في المعارف والمعلومات التي يستمدها عبر هذه الوسائل.
وخلال السنوات الأخيرة قامت القوى الاستعمارية بتطوير وسائل الإعلام لتتحول إلى “جنرال” في الحرب على مجتمعاتنا، فظهرت الشبكة العنكبوتية (الانترنت) ومن خلالها ظهرت مواقع التواصل الاجتماعي مع تطوير في تكنولوجيا الهاتف المحمول، وبذلك أصبح كل إنسان يمتلك وسيلته الإعلامية الخاصة التي يستطيع من خلالها الحصول على ما يشاء من معارف ومعلومات تشكل المكون الأول لعملية الوعي، وإذا كانت المعارف والمعلومات زائفة فإن الناتج عنها سيكون تزييفاً للوعي وليس تشكيلاً له.
وعندما داهمنا زمن كورونا كانت عمليات تزييف الوعي قد نالت كثيراً من مجتمعاتنا، وكانت مؤسسات التنشئة الاجتماعية قد تعطلت نسبياً وعجزت عن القيام بأدوارها كاملة، وعندما أصبحنا في حاجة لتشكيل وعي حقيقي بكورونا لم نجد المواطن جاهزاً لهذه العملية، فوعيه الذي تعرض للتزييف هو المسيطر، لذلك وجدناه يضرب عرض الحائط بكل المعلومات والمعارف التي تأتيه من المصادر الرسمية، وتحذره من خطورة كورونا وضرورة بل حتمية التباعد الاجتماعي والالتزام بالإجراءات الوقائية، ففي ظل غياب الوعي الحقيقي لا تسأل المواطن عن الالتزام بالإجراءات التي تحافظ على أمنه بل حياته.
ومن هنا لابد أن ندرك مدى المأزق الذي وقعت فيه مجتمعاتنا عبر عمليات تزييف الوعي المنظمة التي قامت بها القوى الاستعمارية عبر وسائل إعلامها الجديدة، والتي تخوض بها حربها ضد مجتمعاتنا في إطار ما يُطلق عليه “الجيل الرابع والخامس للحروب”، ولا يمكن أن يتم التصدي لذلك إلا بعودة الوعي المفقود، والذي لا يمكن أن يعود إلا بعودة مؤسسات تشكيل الوعي الأولية والثانوية داخل مجتمعاتنا للقيام بأدوارها المفقودة، وأن يتوقف كل مواطن عند كل معلومة تصله عبر مواقع التواصل الاجتماعي ويتحقق منها لأن أمننا القومي وأمننا الاجتماعي بل الشخصي أصبح مهدد في زمن كورونا.. اللهم بلغت اللهم فاشهد.
كاتب من مصر