بقلم : فوزي حساينية – كاتب جزائري |
– من لا يترددون في رمي نفاياتهم من شرفات العمارات، أو من نوافذ سياراتهم.، أو من نوافذ حافلات النقل العمومي وهم ينتقلون على متنها، ومن لايترددون في إخراج نفاياتهم المنزلية في أكياس بلاستيكية صغيرة تتمزق ويسقط أغلب مافيها في الطريق قبل الوصول إلى مكب النفايات.
– من لايترددون في التفوه بعشرات الكلمات النابية في المقاهي والطرقات والمنازل أو أثناء خصوماتهم وشجاراتهم أو في أحاديثهم اليومية العادية أو حتى في تعاملهم مع أبنائهم..
– من يقضون ساعات طويلة جلوسا في المقاهي يسجلون قوائم الذاهبين والآيبين، ويتبادلون الأخبار حول مكاسب وخسائر الآخرين..
– من لايترددون في ركن سياراتهم فوق الأرصفة وسدها في وجه المارة، ومن لايترددون في الدخول في مشادات عنيفة ، وسلوكات مشينة من أجل أن يمنعوا أحد الجيران من ركن سيارته ولو بصورة عابرة في المكان الذي يعتبرونه ملكا لهم رغم أنه ليس كذلك …
– من يذهبون للاستجمام في الغابات والشواطئ، ولايغادرون إلا بعد أن يتركوا خلفهم مايدل على أنهم قطعان آدمية ، وليسوا جماعات إنسانية…
– من لايترددون في ممارسة الكذب للتهرب من تأدية دين معنوي أو مادي مستحقٍ عليهم، أو واجب كان من المفروض أن ينهضوا به..
– ومن..ومن ..ومن…..ومن ..؟
– هل يصلح أمثال هؤلاء ليكونوا قاعدة لبناء وتطوير الحياة الديمقراطية في بعدها الاجتماعي والأخلاقي، قبل أن نصل إلى البعد أو المستوى السياسي ؟ هل يمكن لأمثال هؤلاء أن يخيفوا الفساد والفاسدين ؟ الديمقراطية إذا لا تتجسدُ فقط في امتلاك القدرة على الكلام والتشهير بمفاسد الآخرين، الديمقراطية قبل كل شئ هي انتصار على رذائل الذات ، ونقائصنا الشخصية ، إنها تربية اجتماعية أخلاقية مستمرة، قبل أن تكون بطاقة انتخابية نلقيها مرة كل خمس سنوات في صناديق زجاجية أو خشبية أو فولاذية..بعد تجمعات تُدوي فيها أصوات الطبلة والزرنة، والخطابات المستهلكة التي تعكس “..موت الرَّعية، ولؤم الراعي”…
-وهذا الذي قدمناه لايعني بداهة أن القاعدة الاجتماعية البشرية التي تستطيع أن تُمهد للديمقراطية يجب أن تكون مثالية في تصرفاتها أو خارقة في مسلكها الحضري وعلاقاتها البينية، وإنما المقصود هو أن يتمكن المجتمع عبر مجهودات فردية وجماعية من اكتساب الرغبة والقدرة على النضال اليومي، والتعاضد الإنساني الديناميكي الذي يعزز ويرسخ في الوجدان الفردي والجماعي الإيمان بوحدة المصير وبأهمية الانتصار للمبادئ والقيم الديمقراطية ابتداء من المستويين الاجتماعي والأخلاقي ووصولا إلى المستوى السياسي بما يُفضي في النهاية إلى إرساء دعائم ذهنية وفكرية ومسلكية قوية لحياة ديمقراطية جادة وحقيقية، أي حياة ديمقراطية ليست فقط قابلة للاستمرار بل ومؤهلة أيضا للصمود والصعود.
ومن المناسب في خاتمةِ هذه الكلمة أن نقف عند هذه ماقالهُ للمفكر السوري الراحل جورج طرابيشي : ” ..لا ينبغي أن يغيب عنا أن الديمقراطية تحملُ معها عذاباتها، وقد كانت ممارسة الديمقراطية حتى في مسقط رأسها، وفي لحظات بعينها من تاريخ أوربا الغربية، كما في بقع بعينها من جغرافيتها، ممارسة جديرة بالوصف بأنها جهنمية أكثر منها فردوسية، وقد نستطيع هنا الاستشهاد بالديمقراطية الأمريكية في عهد المكارثية، وبالديمقراطية الفرنسية في عهد الجمهورية الرابعة، وبالديمقراطية الإيطالية في عهد استئثار الديمقراطيين المسحيين بالسلطة، ويكفي أن نُجيل النظر فيما يجري اليوم – هذا الكلام سنة 2006- في روسيا لنعرف أن الديمقراطية قد تكون هي نفسها حاملة لأمراضٍ جديدة إذا ما طُبقت بطريقة ميكانيكية، وأُنزلت إلى مسرح المجتمع المعني بمثل الآلية الخارجية والفوقية التي كانت تنزل بها الآلهة إلى خشبة المسرح اليوناني “..
هذا جزء يسير مما قاله المفكر السوري الراحل جورج طرابيشي، في معرض شرحه ونقده لــ” خطورة النظرة الأيديولوجية الخلاصية، التي تجعل من الديمقراطية مفتاحا فاتحا لجميع الأبواب ” دون الأخذ بعين الاعتبار لمجمل الحقائق المرتبطة بقضية تكريس وإنجاح ثقافة الديمقراطية، وذلك في الجزء الأول من كتابه : ” هرطقات عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية ” وهكذا تصبحُ الأمور في مكانها الصحيح فالثقافة والتربية الأخلاقية للأفراد وتعويدهم على التصدي الإبداعي للعوائق والمشكلات هي المنطلق والمقدمة التي لا يمكن تجاوزها في تطلعنا المشروع إلى حياة جديدة وواقع ديمقراطي طال انتظاره.