من الواضح للان على الاقل ان الرئيس التونسي ماض بتصميم دون تردد في إجراءاته وخاصة في محاسبة الفاسدين وفتح ملفات الفساد المالي والسياسي والاقتصادي والسمسرة والصفقات المشبوهة والمال السياسي والتي وظفت بمجملها للابقاء على حالة الانتشار الواسع للبطالة وتردي الاحوال المعيشية لملايين الشباب والعائلات التونسية التي ما زالت تعاني من أوضاع مأساوية وهي الاوضاع التي جاءت بالثورة الشعبية التونسية والتي اختطفت في محاولة القضاء والالتفاف على جوهر التحركات الشعبية ومطالبها المحقة والتي ادت في النهاية الى كنس النظام البائد لزين العابدين بن علي في يناير عام 2011 .
ومن الواضح أيضا انه كلما توغل الرئيس قيس سعيد بالكشف عن مدى الفساد المستشري في الحكومات السابقة ومؤسسات الدولة ووضع القيود على المتورطين ومنعهم من السفر أو خضوعهم الى التحقيقات أو إحتجازهم كلما زاد الهجوم عليه من قبل الطبقة السياسية الفاسدة لانها بدأت تشعر بأن الطوق يشتد اكثر فأكثر على رقابها التي تدعي بأن إجراءات الرئيس ليست دستورية وخارجة عن القانون وصلاحيات الرئيس الدستورية ووصفتها منذ البداية بأنها تشكل إنقلابا على الدستور والديمقراطية.
هذا من جانب ومن الجانب الاخر ومع مضي الوقت وفي محاولة خبيثة للالتفاف على الإجراءات أبدت هذه الطبقة السياسية استعدادها للحوار مع الرئيس وأعترفت ضمنا ان هنالك أخطاء إرتكبت ويمكن تصحيحها بالحوار والعودة الى “الديمقراطية” عن طريق إجراء الانتخابات البرلمانية. وكل هذه المحاولات رفضت من قبل الرئيس الذي ما زال يحظى بدعم شعبي كبير هذا الدعم الذي يزداد يوميا على ما يبدو. هذا الدعم من قبل قاعدة شعبية عريضة الى جانب أحزاب تونسية ومنظمات المجتمع المدني بدأت بالفعل تخيف محور القوى المعادية للتغيير والمحاسبة الذي بدأ يصاب بالتصدع الداخلي وظهور عناصر من الصف الاول والثاني مثلا لحركة النهضة التي تطالب بإقالة الغنوشي من قيادة الحركة. ولكن القضية بالطبع ليست قضية فرد بالرغم من ان الفرد يلعب دورا هاما في مرحلة تاريخية وظروف معينة الا ان القضية الرئيسية هنا هي قضية منحى وهوية سياسية وطبقية والمواقف والسياسات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها التي تبنى بناء على هذا النهج والمنحى السياسي.
ومع تأزم وضع هذه الطبقة السياسية في الداخل وعدم وجود أفق لها من الهروب من المحاسبة وربما خضوع البعض منها الى المحاكمات والدخول الى السجون والاخطر من هذا عليها هو إذا ما تم تغيير النظام السياسي برمته في تونس مما سيفقدها الكثير من مصالحها الاقتصادية ونفوذها السياسي في البلد نراها اليوم بدأت وبشكل أكبر من الاول الى التوجه للاستقواء بالاجنبي وخاصة بالولايات المتحدة وفرنسا وتركيا على وجه التحديد موظفة ومستثمرة في ذلك علاقات بعض رموزها بالنخب السياسية في هذه البلدان. ولقد توجهت قيادات هذا المحور المعادي للتغيير وفتح الملفات والمحاسبة الى هذه الدول مطالبة بأن تضع ضغوطا على الرئيس قيس سعيد لوقف هذه الاجراءات بحقها والعودة الى “الديمقراطية”.
والدول الغربية بالتاكيد تخشى من ان تشكل تونس او غيرها من الدول العربية نموذجا ديمقراطيا حقا وذات سيادة وخالية من الفساد وتحقق العدالة الاجتماعية في بلدها, حتى وإن كانت غير معادية للغرب. وبما أن تونس مرشحة على الاقل الان أكثر من اية دولة عربية أخرى في المنطقة للسير في هذا المنحى وتحقيق المطالب الشعبية التي قامت من أجلها الثورة التونسية التي اختطفت فقد اصبحنا نرى دعوات غربية من قبل الولايات المتحدة وفرنسا بضرورة عودة الديمقراطية بأسرع وقت ممكن. وهنالك عناصر في الداخل التونسي تريد الاستقواء بالخارج الغربي للمحافظة على مصالحها ومنع سحب البساط من تحت أقدامها.
ولا بد لنا من القول ان مطالبة الولايات المتحدة على وجه التحديد او البعض من أدواتها الغربية او الاقليمية بالتدخل في الشؤون الداخلية التونسية لما يسمونه بالعودة الى “الديمقراطية” هو درب من دروب الاستقواء بالاجنبي على ابناء البلد وخاصة الطبقات الفقيرة والمسحوقة منها لصالح القطط السمان والطبقة السياسية الفاسدة والمفسدة والتي ترتبط مصالحهاا بهذه الدول وعلى رأسها المصالح الاقتصادية فيما يتضمن تبني نظام الاقتصاد الحر والخصخصة وفتح البلد الى الاستثمارات الاجنبية والخضوع لشروط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ورفع الدعم عن السلع الاساسية ..الخ والتي بمجملها إحدى الاسباب الرئيسية لما آلت اليه الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية في تونس ومصر وغيرها من الدول العربية. هذا عدا عن الضغط لإتباع سياسات خارجية تخدم مصالح الصهيو-امريكية في المنطقة وخاصة في المسار التطبيعي مع العدو الصهيوني.
الاستقواء بالاجنبي لن يجلب الديمقراطية لتونس بل سيعمل على وأدها ولقد راينا أمثلة حية في وطننا العربي ماذا تعني الديمقراطية للغرب. رأينا ماذا يعني نشر الديمقراطية وبناء الدول والمؤسسات ونتائجها الكارثية. رايناه في العراق الذي ما زال مدمرا وغير قادر على توفير الخدمات الاساسية للمواطن العراقي ومنقسما مذهبيا وعرقيا وجغرافيا. ورأيناه في ليبيا التي دمرت وتحولت الى دولة فاشلة ومرتع لامراء الحرب والمجموعات الارهابية ومركز للهجرة الغير شرعية للشواطىء الاوروبية. وفي كلا الحالتين تم الاستقواء بالاجنبي فماذا كانت النتائج؟ ورأينا تجربة “بناء الدولة والديمقراطية” في أفغانستان فبعد أكثر من 20 عاما تركت البلاد في وضع اسوأ من الاول. الاستقواء بالاجنبي لن يأتي الا بالدمار ومزيد من الدمار.
* كاتب وباحث اكاديمي فلسطيني
bahij.sakakini@gmail.com