أن نكتب الصّعب الممتنع، سنكون دوماً مضطرين أن نعاقر فنّ التعقيد لسببين: الأول، لأنّنا حينما نعكس تركيب الواقع، فهذا التعقيد هو نقل بسيط للواقع نفسه كما هو، الثاني، لأنّ الكتابة الصعبة لا يمكن أن تكون بسيطة، أي تمرّ من دون إثارة، فالاضطهاد يدفع بفن الكتابة لتحقيق أمرين: المفهمة التي تفرضها وظيفة المثقف، والاستعارة التي يقتضيها التخاطب غير المباشر.
بين الاضطهاد والكتابة علاقة فنية -تناولها ليو ستراوس- تجعل من الكلمة محنة تتأرجح بين موت القلب وموت العقل، ففي ذلك البرزخ يغرق المعنى ويتيه.
لا زلت أخشى على الحقيقة من التبسيط، أي تجنّب الصّعب الممتنع الذي يقتضي التعقيد الممتنع.. لماذا نصرّ على التبسيط الذي دمغ أنماط العصر في العقل والمشاعر والخيال؟ ربما في السياسة تكون ضريبة غياب التعقيد قاسية ومضاعفة.
لنطلّ على ما يجري اليوم في الشرق الأوسط، سأميل قليلاً إلى دور أنماط الأقوام في تباين تجارب الأمم. نولد سواء بيولوجياً، ولكننا سرعان ما نصنع ماهيتنا الجماعية، ومنها يولد تاريخ مختلف، حين يتجاوزنا التاريخ، تاريخ لم نكن طرفاً في صناعته، نسعى لتغيير الماهية الجماعية عبر آليات مفتعلة. هذا هو جوهر الاحتلال ومن هنا وجب الانطلاق في فهم ما جرى ويجري في هذا الحيّز الجغرافي والدلالي الذي اسمه “الشّرق الأوسط”.
إنّ المعركة الأقصى التي نخوضها اليوم، هي مركّبة، وتسعى إلى التذكير المفرط بأهمية تطوير المقاربة. ربما وتحت هذا التدفق الكبير للمشاعر سواء الصحيح منها أو المزيّف، نتجاهل المهمّة الأساسية التي تفرضها حقيقة أنّ لكل مرحلة نظريتها. إنّنا نواجه التحدّي بمبدأ قديم، لكن ثبوت المبدأ لا يعفي من تطوير النظرية. نلاحظ أنّ العقل العربي لازال يحنّ إلى ما قبل عصر النظرية، أي عصر الاستقالة التي تتجه بالشرق الأوسط إلى تكرار تجربة الهنود الحمر، فالزهو بالفؤوس والأرياش فوق الرؤوس قد يتسبب في تجاهل النظرية.
وتراني أتساءل كيف أضاع الفينيقيون مجدهم وذكاءهم وهم مؤسسو سياسة المتاجرة وفقهها الأوّل؟ وأتساءل أيضاً: ماذا يعتقد أولئك الذين يعتقدون أنّهم إزاء هنود الشرق الأوسط، أي أولئك الذين لن يفهموا الغرب، وسيدافعون عن أنفسهم بكل الأساطير التي فقدت معناها في مفرق صراع الحضارات؟ كان الفينيقيون هم من علّم المنطقة فنّ البيع والمقايضة، بل هم من فعل ما لم يدركه الغرب، حينما قاموا بوصل سواحل المتوسط بأوروبا، بتعبير لامانس هو وصل بين شرق عتيق وغرب مترعرع. حيث نقلوا كل تمدن البابليين والمصريين وحتى اليونانيين إلى أوروبا. هنا لن يكون الشرق هندياً، بل منبعاً روحياً وهمزة وصل جغرافية وتاريخية وحضارية.
ما الذي يجعل فينيقيي اليوم يفقدون تلك المهارة وينحدرون إلى أنماط التفكير الهندي؟ كيف نجحوا في التجارة والعلم وأخفقوا في الدّولة؟
أسمع كغيري خطاباً سياسياً غير متجانس: نريد ولا نريد. هل سنكرر عبارة هاملت حيث وجبت القسوة لأجل سعادة من نقسو عليهم.
يحتاج “الشرق الأوسط” إلى أقسى القسوة ليترك ما سميته قبل سنوات من قراءة المشهد الحزبي بالتّواهم، أي تبادل الوهم في خطاب تواصلي مغلق ومزيّف. هناك جيل مثقف ينقرض وتنقرض معه الحقيقة والقسوة التي تحدث عنها شكسبير.
سنواجه جيلاً من المثقفين ليسوا مستقلين ولا مندمجين، ولكنهم يفضلون رقصة المطر في صيف عربي قائظ، الخوف اليوم من التواهم وتجاهل الواقع.
لا أستخف بالنّار، ولكن لا تذهلني النّار، أنا أعرف كيف أشخّص مفهوم الحرب والقتال، ومنذ فترة تساءلت: أي معنى للقنبلة النووية إذا ما تعلق الأمر بمقاومة تتوسّل الذكاء الطبيعي. أخشى على المقاومة أن تنسى أنّ قوتها هنا، وليس في أساليب الردع التقني، لأنّها لن تتفوق كلاسيكياً على جيش كلاسيكي، لكنها تستطيع أن تصيبه بالهستيريا.
في عناوين الصراع اليومي وتشظّي الجغرافيا السياسية لشرق المتوسط، تشويش على الجوهر وهُيام بالعرض.
يدفعنا التبسيط لإتلاف كل وسائل التحقيق من المآلات والبواعث الحقيقية.. أتراني متحمّساً لتبني سرديات مشجعي الكرة في التحليل السياسي؟
ليس أغرب من هاشتاغات تنحدر كشلال من الدوحة تستهدف الإمارات واصفة إياها بالمُطبعة.. ولكل موّال وسردية وفنّ. أقرأ في كلّ هذا تهييئاً للذهن الجمعي في إطار الميني- ماكس في الانحدار، تفادياً للوضع الصفري.
ثمة بؤر مهيّأة لتكون عواصم احتضان الثورة الفلسطينية، مع أنّه تقادمت في التطبيع، النقاش يدخل حيز المغالطة: التقادم في التطبيع فضيلة.
هل يمكننا الحديث عن يد آدام سميث الخفية، تلك التي تعبث بمصفوفة المفاهيم، لننخرط في موسم التزحلق في مرتفعات المفاهيم؟ التحامل هنا يستدعي المرجعية الجغرافية. لو ظلت علاقة السعودية والإمارات بالإخوان كالسابق، لما تهتك الإقليم. هذا النوع من الصراع له دلالات أخرى لا تخصّ القضية المركزية: فلسطين. الإخوان أنفسهم برروا خطاب مرسي إلى بيريز، كما برروا موسم الهجرة إلى إيباك. هل يوجد الإخوان في مكان غير مطبّع؟ هناك تصفية حساب محورها موقع اصطفاف الإخوان، هي أسباب نزول كل هذا التوتر. إذا أخطأنا الجوهر غرقنا في الأعراض.
لازلت حائراً بين مرجعيتين في الكفاح. هناك سوء فهم كبير، حيث لا أحد يملك أن يقول: ماذا نريد؟ وفي تقديري، أنّنا أصبحنا ندرك ما هو سقف المطالب، إنّه الهدنة، والتفاوض عبر المنهجية نفسها، الوساطات نفسها، السقف البراغماتي نفسه، ثم سننتشي.
كنا نعتبر أنّ المقاومة جاءت لتكفّر عن أوسلو، لكنها عادت إلى مرجعية كامب ديفيد. كم نحن سعداء ونحن نعانق جهاز استخبارات كامب ديفيد، لتعبر عن أصالتها، ثم نلعن السادات وأبا عمار؟
كم هو الوضع مختلف تماماً حين ننظر إلى المقاتل اليمني ينتشي وهو يصطاد المرتزقة بين الوديان والمرتفعات، وطبيعي أن يهربوا كالأرنب البريّ، إنّ المرتزقة يقاتلون ليعيشوا، بينما اليمني يقاتل ليعيش الوطن.
المقاتل اليمني، غير مُكْلِف في مؤونته حتى أنّه يصول ويجول حافي القدمين، ويتماهى مع الصخر والتراب، متصالحاً مع الطبيعة، قليل من العتاد وشيء من القات، يقاتل فوق الأرض لا أنفاق له، بكثير من المعنويات ورصيد من الفطرة، وسينتصر من دون حركات فاندامية. ليس من المنطقي أن نتحدث عن ضرورة تمثّل أنماط الكفاح، هناك سياقات وشروط، ولكن لا بدّ من الاعتبار.
لازال المثقف العربي عاجزاً عن إنجاز نظرية للكفاح، بل هناك عزوف وتجاهل لنظرية تعكس ما يجري اليوم، إنّني بدأت أفقد الأمل مجدداً، إنّ السقف بات خفيضاً، وتلك رسالة مشفرة: أن مساراً جديداً نحو أوسلو قادم لا محالة، ولكن بزهو أكبر.
هناك من وجد الحل في التراجع عن أولوية فلسطين، وهناك محاولة لربح الوقت وإعادة التجربة نفسها. واضح أن العرب كلهم سينقرضون في حال تمت تصفية القضية الفلسطينية، لكن ما الحل؟ الحلّ هو أنّ التاريخ يسير باتجاه خلق صدامات كبرى.
الاحتلال لن يترك المنطقة من دون حرق المجال، وهناك شعب فلسطيني يستعيد هويته عند كل مفرق أو مفرزة أو تهجير قسري أو اضطهاد. إن هوية الشعب الفلسطيني ينتجها الاحتلال نفسه ويعززها بشكل يومي، هوية شعب يحددها السؤال: نكون أو لا نكون.
ماذا نريد؟ ويفترض أن نجعل اللغة في مستوى ما نريد. لم أقدر على استيعاب هذه المفارقة الجديدة، مع كل مفعول التلقيح وآثاره، لم يسعفني الخيال وتراخي الحس المشترك لأفهم إلى أين نحن ذاهبون.
في تفكيك لغة الحجاج، يسائلنا فقه اللغة ومنطقها: الاشتراطات التي تعني في علم التفاوض القابلية العميقة للتنازل، الرغبة العميقة للاحتياج. إن فعلتم سنفعل. في المفهوم الذي يحبل به المنطوق هذا يعني:
– نريد الإطاحة بالاحتلال
-أيها الاحتلال، إن كنت تريد أن تبقى فعليك ألا تفعل كيت وكيت.
هذا يساوي الضغط للتفاهم، حين يصبح التفاهم والهدنة طلباً للمقاومة لا طلباً للاحتلال، فانتظر الساعة.
لا شك أن الاحتلال يريد هدنة، يريد هدنة تتيح له أن يعيد صياغة أولوياته ويسترجع أنفاسه، ولكنه لا يعبر عنها، ويستعمل الوسائط البعيدة والقريبة، لأنه يدرك دلالة اللغة، لكننا نزهو ونعبر عنها بأساليب بالغة البساطة. على المقاومة أن تستوعب فقه اللغة.
* كاتب من المغرب