يعدّ انتشار جائحة “كورونا ” أو ما يسمى بكوفيد-19 من أسوء الأزمات الصّحيّة التي شهدها القرن الواحد والعشرين، لسرعة اختراقها القارات و الحدود بدون تمييز بين الفئات أو الأجناس أو الأديان والطبقات المجتمعيّة المختلفة ،متسببة في حالات من الفوضى والذعر ، حيث كانت ولا تزال العدو الغير مكتمل الحقيقة والمهدد الأكبر لوجود الإنسان على وجه الأرض بعد فتكها بآلاف الأرواح البشريّة في فترة زمنيّة قياسيّة بما يقارب ثلاث مائة و خمسون ألف شخص و ما يفوق خمسة ملايين إصابة بالعدوى حتى الآن..ولا تزال البحوث العلمية قائمة لإيجاد اللقاح ومحاولة توصيف العلاج الأمثل الذي من شأنه أن يحد من ضراوة هذه الجائحة.
لقد صدّعت هذه الجائحة صورة النّظام العالمي الرّاهن و مؤسساته وأثرت بشكل مباشر وملحوظ على الأمن القومي والصحي والاقتصادي للدول ،كما بينت هشاشة الأنظمة المتبعة في تسيير إدارة حالات الطوارئ، ولم تستثن أي من المجتمعات وخاصة تلك الدول التي تقدّم نفسها على أنها عرّابة للحرية والديمقراطيّة بل وأكدت على عجز منظومتها في إدارة الطوارئ و لم تنفع استخباراتها في استشراف حدوث الوباء الذي عصف بمنظوماتها الصحية و المجتمعيّة، ممّا جعلتنا نستذكر ذرائع واهية استخدمتها كمسببات لحروب قادتها في دول ادعت أنها تهدد أمنها .
رغما عن كل مساوئ كوفيد-19 المباغت و قتامة تداعياته، كشف عن عدة جوانب مضيئة للتضامن الإنساني فضلا عن صور أخرى إنسانية جميلة من المثابرة والكفاح ونكران الذات كالتي أظهرتها الإطارات الطبية وشبه الطبية وما كانوا عليه من الكفاءة العالية وتفاني المجتمع المدني في معاضدة الهياكل العمومية و المؤسسات الإستشفائية ومع الشرائح الاجتماعية الأكثر تضررا من تداعيات الجائحة السلبية على العائلات المعوزة ومحدودة الدخل والمحالين على البطالة وفاقدي السند والمسنين وذوي الاحتياجات الخاصة .
أفضت الجائحة إلى فهم أعمق لبعض الممارسات الاجتماعية و أهمها التباعد الاجتماعي أو الجسدي” كنمط اجتماعي جديد والذي يعد استجابة ناجعة لمكافحة تفشي الوباء باعتبارها فرصة للنّجاة من العدوى من جهة و من جهة أخرى جعلتنا أكثر قربا وتضامنا اجتماعيا وحتى إقليميا ودوليّا لنستعيد من خلاله تضامننا الإنساني الجديد في إطار علاقاتنا سواء بعائلاتنا ، بأنفسنا أو بالآخرين . وفي كثير من المواقف أصبحنا أكثر تعاضدا و تضامنا، وأصبح لدينا فهم أفضل لمفهوم العيش المشترك على كافة المستويات ووحدة المصير، وزاد الحجر الوقائي في تعميق الحاجة إلى هذا المفهوم الجديد للتضامن من خلال رؤى مشتركة ،ساهمت بطريقة أو بأخرى في رسم الخطوط المستقبلية للأمن العالمي التي تبدأ من صحة الفرد.
طرحت الجائحة بطريقة غير مباشرة مسألة تعزيز وحماية حق الشعوب والأفراد في التضامن الدولي والتعاون بشأن الكوارث الطبيعية ومكافحة الأمراض كمبدأ من مبادئ قانون حقوق الإنسان الدولي والمتعلّقة بحقوق الإنسان الجماعيّة التي أشارت إليها الجمعية العامة للأمم المتحدة . ينصّ هذا القانون على اتحاد المصالح والغايات بين بلدان العالم والتماسك الاجتماعي فيما بينها من اجل استمرارية المجتمع الدولي مما يعزز أيضا السلم والتضامن الدوليين وجعل حقوق الإنسان واقعا ملموسا. ونحن الآن وأكثر من أي وقت مضى في أمس الحاجة لمثل هذا التضامن لمجابهة هذه الجائحة والقضاء عليها وتجنيد كل الإمكانيات لاستشراف عدم تكرارها مستقبلا . فهكذا آفات لا تستطيع الدول والشعوب مواجهتها بمفردها و إنما بالتضامن والتعاون لتحسين القدرات الجماعية لمجابهة مثل هذه الجائحات.
لقد أيقنّا اليوم بضرورة تكوين حركة واسعة من التضامن الدولي تعمل على ضمان الحماية من خطر الأوبئة عبر تنسيق إقليمي ودولي للتصدي لخطر الأوبئة والأمراض والكوارث الطبيعية ،ولأنّ كلّ كارثة، إن كانت طبيعية أو مفتعلة هي حتما ستكون سبيلا لخلق توازن جديد، وتتطلب استجابة فورية وفعلية وفهم أعمق واشمل وتحولا جذريا في طرق التفاعل والتآزر مع بلدان وشعوب العالم .
الجائحة شدّت الانتباه إلى أنّ لا احد من البشر سيد لهذا الكون وان العالم ليس ملكيّة خاصة لنا و كلما تغوّلت سطوة الرأسمالية والامبريالية العالميّة والنزعة الاستهلاكية فسيظهر المزيد من الفيروسات والجوائح والكوارث.، لذا يجب علينا خوض المعركة ضد كوفيد-19 بكل الوسائل الضرورية العلمية منها والاجتماعية والاقتصادية ، كما يتعين علينا نشر قيم الإنسانية العميقة وان كان لنا أن نقهر الفيروس بالوسائل العلميّة و البيوتكنولوجيّة فيتحتّم علينا أيضا مواجهتها بالحكمة وبروح التضامن الإنساني لأنّ “الكورونا” كانت بمثابة “الامتحان الأخلاقي للمجتمع الدّولي و الشعوب “.
المصادر ذات العلاقة :
http://hrlibrary.umn.edu/arabic/AR-HRC/AHRC12-66.pdf
الجمعيّة العامة للأمم المتحدة – مجلس حقوق الإنسان: مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان- (43/2004/2.Sub/4.CN/)
سناء جاء بالله: خبيرة في الأحياء الدقيقة و الوبائيات /عضوة اللجنة التونسية للتّضامن و السلم