دقائق ويعرف عبّود سلام، أي مصير ينتظر عائلته. فرحة العمر أم نغصته. قدماه تقودانه في الباحة الخارجيّة في مستشفى الفلّوجة التعليمي للنساء والأطفال جيئة وذهاباً في مسار دائري. حبّات المسبحة تتقلب بين أصابعه بسرعة. كانت زوجته دخلت صالة الولادة بصحبة الممرضات وبقي هو في الخارج أكثر من ساعة. مشاعر القلق تفضحها شفتاه وهو يردد: “يارب… كامل الخلقة… كامل الخلقة”.
ولادة طفلٍ مريضٍ أو مشوّهٍ، هي المخاوف المشتركة بين عبّود سلام وجميع الآباء في باحة الانتظار في هذا المستشفى المختص بالولادات. فالمعارك التي دارت رحاها هنا في الفلوجة قبل أكثر من عقد، واستخدم فيها الجيش الأميركي قائمة من الأسلحة المحرّمة دولياً، اليورانيوم المنضّب والفوسفور الأبيض والصواريخ الموجهة بالليزر، جعلت الفلوجة في صدارة المدن التي تنجب أطفالاً من ذوي العيوب الخلقية، بحسب مختصين ومعلومات يكشفها هذا التحقيق.
حظي عبود أخيراً بفرصة أن يكون أباً، فأطلق على مولوده الأول اسم فرج، ربما لطول ما صبر وانتظر.
تزوج عبود قبل 3 أعوام وكان متردداً بخصوص إنجاب طفل. سبق أن انضم إلى أفراد أسرته مولودٌ مصابٌ بسرطان الدم (اللوكيميا)، هو قيس ابن شقيقته الصغرى الذي يقيم حالياً في الأردن لتلقي العلاج. التردّد زاد عندما وضعت شقيقته الثانية مولودةً بعينٍ واحدةٍ فقط في منتصف الجبهة. الطفلة الرضيعة مصيرها الموت حتى قبل أن تُمنح اسماً.
“إنها ليست حياة يا أخي… إنه فيلم رعب” يقول عبود بانفعال ويتابع: “عزفنا عن فكرة الإنجاب تماماً، لم نعد نريد أطفالاً. داومت زوجتي على حبوب منع الحمل كي لا تتكرر المأساة. لكننا في النهاية لم نستطع الاستمرار هكذا. أنا وهي كنا نحلم باليوم الذي تكتمل فيه عائلتنا بقدوم طفل”. يتوقف عن الكلام للحظات وكأنه تذكر أمراً مهماً. “صبي أو بنت لا يهمّ… المهم الصّحة والعافية”.
في مدينة الفلوجة (60 كلم شمال غربي العاصمة بغداد) لم يعد سماع خبر ولادة الرضيع هو ما تنتظره العائلات خارج صالات الولادة، بل أن يكون المولود خالياً من التشوهات الخلقية التي اعتاد عليها الأهالي منذ 15 عاماً، وتحديداً بعدما خرجت الفلوجة، التي لا تتجاوز مساحتها 16 كيلومتراً مربعاً، من رحى عمليات عسكرية قادها الجيش الأميركي عام 2004 ومعه قوات عراقية “لتطهير” المدينة من مسلّحين حوصروا طوال أشهر في الداخل ومعهم عشرات آلاف المدنيين.
ووقعت معركتان في الفلوجة عام 2004، الأولى في مطلع نيسان/ أبريل وامتدت لأسابيع، والثانية بين (7 تشرين الثاني/ نوفمبر ونهاية كانون الأول/ ديسمبر 2004)، وعرفت بمعركة الفلوجة الثانية (عملية الشبح الغاضب) وانتهت باقتحام المدينة التي تعرضت لدمار واسع نتيجة سقوط آلاف الصواريخ والمقذوفات، التي ألقتها طائرات ومروحيات ومدافع ودبابات (ابرامز) وقاذفات صواريخ محمولة على السيارات. ووصلت نسبة الأبنية المدمرة كلياً أو جزئياً أو المتضررة إلى نحو 70 في المئة، من مجموع الأبنية في المدينة، وفق مسوؤلين محليين أشاروا إلى مشاركة آلاف من جنود المارينز الأميركيين وقوة عراقية من الحرس الوطني مؤلفة من ثلاثة ألوية.
وبحسب عضو في لجنة التعويضات التي شكلت بعد المعركة، تم ترويج 42371 معاملة طلب تعويض نتيجة تدمير منازل محلات تجارية وصناعية أو تضررها، أو خسارة ممتلكات من مركبات ومواشي. وقد خصصت تعويضات من قبل الحكومة الأميركية والحكومة العراقية. وذكر حاجم الحسني وزير الصناعة ورئيس لجنة إعادة إعمار الفلوجة حينها، أن الحكومة العراقية رصدت مبلغ 100 مليون دولار دفعة أولى لتغطية نحو 20 في المئة من احتياجات المدينة.
الحكومات المتعاقبة على حكم البلاد لم تبادر إلى تنظيف المدينة من بقايا الذخائر المختبئة بين الركام، ولم تحصِ الخسائر التي خلفتها عملية “الشبح الغاضب” في أرواح المدنيين وأبدانهم، ولم تعترف بارتكاب حليفتها واشنطن “جرائم حرب” ناهيك بتعويض المتضررين ومتابعة الأوضاع الصحية للمرضى، وفق ناشط مدني، فضل عدم ذكر اسمه.
وعلى رغم وفرة الشهادات والصور ومقاطع الفيديو عن استخدام الفوسفور الأبيض المذيب للأجساد والغازات السامة وقذائف النابالم في حسم المعركة، وفوق ذلك، سلسلة لا تنتهي من الولادات المشوهة ووفيات الأطفال تبعثرت سجلاتها في دفاتر الأحوال المدنية والمراكز الصحية، لا يتوفر بيانٌ رسميٌّ واحدٌ يرصد النتائج الفعلية لآلة الحرب العسكرية.
هكذا تفضل حكومة بغداد ابقاء باب التحقيق في هذا الملف مغلقاً، ورمي المفتاح في بئر التجاذبات السياسية. أما حكومة الولايات الأميركية، فأقرّت باستخدامها الفوسفور الأبيض في الفلوجة، لكن قانونها لا يعتبره سلاحاً كيماوياً.
يستشعر أهالي المدينة المنكوبة الحرج عند الحديث عن أطفالهم المصابين نظراً لحساسية الموضوع من الناحية الاجتماعية. هي ظاهرة تكررت في أكثر من مكان في العالم تعرض للقصف الإشعاعي بما فيها هيروشيما، حيث كان الأهالي يرفضون الكلام عن التشوهات ويبدون انفتاحاً أكبر عند الحديث عن الوفيات.
أحدهم في الفلوجة والدٌ لفتاة عمرها 13 سنة، تعاني من تشوه في العمود الفقري، رفض بشكل قاطع الحديث قائلاً لنا: “أرجوك يا أخي، ليس في عائلتنا أيّ مريض” وطلب منا عدم معاودة الاتصال به.
الأبرز هو تكتم الحكومة المحلية، لا المرضى، عن المعلومات خوفاً من الملاحقة الكيديّة أو الفصل الوظيفي. مخاوف وردت على لسان أكثر من مسؤول في مجلس محافظة الأنبار وموظفين في وزارة الصحة في بغداد.
ناظم الحديدي مدير إعلام مستشفى الفلوجة التعليمي كان من القلائل الذين قبلوا الحديث إلينا (صدر قرار بإعفائه من منصبه ونقله من مدينة الفلوجة بعد وقت قصير من إجراء فريق التحقيق لقاءً معه). أخذ يجول بنا داخل ردهات المستشفى، وصولاً إلى قاعة المكتبة التي تضم عدداً من البحوث والتقارير.
الصور الفوتوغرافية المعلّقة على جدران القاعة كانت لقطات لعشرات الأطفال المولودين توّاً بلا أطراف أو بأطراف متلاصقة. وعلى مسار خط مستقيم تصطف صورٌ لمواليد بعين واحدة، وآخرين بأحشاء خارج أجسامهم، وذوي أمراض جلدية نادرة كالمرض الذي يعرف بـ “جلد الضفدع”. هناك إلى جوارهم من اقتطع التشوه أجزاء من شفته أو أنفه وأذنيه. ومن بينها صور يصعب حتى وصفها لا يمكن فيها التعرف إلى تقاطيع الجسم. هذا “المعرض” الذي لا يزوره إلى القلّة كان الانطلاقة للبحث في قاعدة بيانات جمعها أطباء المدينة بجهد شخصي، تخفي معلومات أكثر تفصيلاً.
“كما ترى… الولادات المشوهة لم تنقطع هنا، ولربما عددها يزيد”، قال الحديدي بينما كان يمرّر أصابعه أسفل إطار صورةٍ التقطها أواخر العام الماضي. “هذا الطفل مات فور ولادته… حاله حالُ الكثيرين من أبنائنا”.
14 في المئة مصابون
يقطن في قضاء الفلوجة حوالى 450 ألف نسمة، نصفهم يعيش في المدينة بحسب تقديرات رسمية. لكن لا يوجد سوى مستشفيين اثنين، أحدهما هو المستشفى التعليمي، يستوعب 200 سرير فقط لاستقبال أنواع الحالات كافة، كانت معظم الولادات تجرى فيه، إلى أن استكملت صيانة وتجهيز المستشفى الثاني الخاص بالنسائية والأطفال، عام 2012 والذي يضم 11 طبيباً وطبيبة، مختصين بطب الأطفال و12 طبيبة مختصة بالأمراض النسائية، إضافة الى اختصاص واحد فقط بصحّة الأم والجنين.
“فريقنا يعجز عن تقديم الخدمات المطلوبة لسكان المدينة والقرى والقصبات المجاورة، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالكشف المبكر عن الأمراض والتشوهات” تقول إحدى الطبيبات العاملات في المستشفى.
تكتّم قاتل
من بين حوالى 6 آلاف يولدون سنوياً، ويُسجَّلون في دوائر الأحوال المدنية بحسب التقديرات الرسمية، ليس من المعروف نسبة حملة العيوب الخلقية ولا أحد يرغب في الحديث عن الأمر. فجميع محاولات التواصل مع وزارتي الصحة والتخطيط في بغداد، كانت تبوء بالفشل وتقابل إما بالاعتذار أو التأجيل المستمر لموعد المقابلة أو عدم الرد على الرسائل البريدية والاتصالات الهاتفية.
أخيراً، تمكن فريق التحقيق بمساعدة مجموعة من الأطباء والموظفين من الحصول على سجلات العيوب الخلقية في أقسام الولادات في المستشفيين بدءاً من عام 2010 وحتى سقوط المدينة تحت قبضة تنظيم “داعش” في مطلع عام 2014. وهي بيانات جمعتها الطبيبة سميرة العاني بمساعدة عدد من الأطباء أثناء دوامهم الرسمي.
تقول طبيبة الأطفال سميرة العاني: “كنت أسجل الحالات خلال الورديات التي اعمل بها، فكنت مثلاً أوثق الحالات خلال 8 ساعات يومياً ما عدا يوم الجمعة من دون أن أتلقى دعماً أو مساعدة من أحد”.
تظهر الوثائق التي حصلنا عليها ولادة 345طفلاً خلال فترة المسح المقدرة بـ116 يوماً عام 2010. يحمل هؤلاء عيوباً غالبيتها في الجهاز العصبي كالنخاع الشوكي والدماغ وعدد آخر من المسجلين من ذوي الشفة الأرنبية أو شقوق في سقف الحلق.
بينما سجل عام 2011 في العدد نفسه من الأيام ولادة 309 أطفال بحالات مماثلة، ليرتفع العدد عام 2012 إلى 363 طفلاً. وكان العام الأخير لتقييد السّجلات هو عام 2013 وعدد المسجلين فيه والذين يعانون من تشوهات، كان 334 طفلاً.
خلاصة المسح الذي أجراه الفريق الطبي تظهر أن المعدل الوسطي للأطفال المولودين بعيوب خلقية، كان 337 طفلاً من أصل 2292 حالة ولادة طبيعية وقيصرية وسطياً خلال فترة الدوام الرسمي، أي بنسبة تبلغ 14.7 في المئة من مجموع الأطفال المولودين.
في مطلع عام 2014 سيطر تنظيم الدولة الإسلامية على مفاصل الحياة في المدينة، وهجرها معظم الموظفين، فتوقف الفريق الطبي عن توثيق الحالات. يقول أحمد الشامي وهو آخر الأطباء الذين استطاعوا الهروب من المدينة أواخر عام 2015، إن “العمليات العسكرية كانت على أشدها في فترة سيطرة التنظيم وكان الاهتمام بالجرحى والقتلى على حساب الحالات الأخرى من المرضى”. ويضيف أن “المدينة خلت تماماً من الملاكات الطبية والإدارية ولم يكن هناك من يهتم بموضوع التشوهات”.
يتابع الشامي بينما يقلب رزمة من الملفات، وهي تقارير مكتوبة بالعربية ومترجمة إلى الإنكليزية في مكتبته الخاصة: “هذه الأرقام (المذكورة أعلاه) تخص النساء اللواتي وضعن مواليدهنّ في المستشفى، فقط”.
يعلق طبيب آخر رافضاً نشر اسمه، “الفلوجة تحكمها أعراف عشائرية صارمة تفرض على نسبة كبيرة من النساء أن يلدن في منازلهنّ، وفي حال حصلت وفاة لا يتم تسجيل الطفل، لذلك فإن الأرقام الحقيقية ينبغي أن تكون أكبر بكثير”.
أعلى من النسب العالمية!
سميرة العاني، الطبيبة التي أشرفت على هذا المسح، كانت أول من رصد الظاهرة وخرج بها إلى الإعلام والدوائر الصحية المحلية والدولية بسبب تعاملها اليومي مع عدد كبير من الحالات، التي بدأت تشخيصها على أنها “تشوهات في الغالب غير وراثية”. استقبلتنا العاني في مستشفى الفلوجة التعليمي بعد انتهاء ورديتها الصباحية وحدثتنا عن عجز المؤسسة الصحية أمام هذا الملف.
“كنا في العامين 2005 و2006 نرصد عدداً من التشوهات إلا أنها لم تكن بالمستوى الذي نتحدث عنه اليوم”. وأضافت: “عام 2009 عندما رصدنا في ثلاثة أسابيع متتالية ولادة 37 حالة ولادة من هذا النوع ومن ثمّ وفي يوم واحد نحو 13 حالة أدركنا أننا أمام كارثة تتطلب جهوداً استثنائية، فبدأنا إجراء فحوصات دقيقة وزيارات ميدانية”.
الجهود التي بذلتها العاني مع زملائها في إرسال نتائج المسوحات الشهرية إلى مديرية صحة الأنبار ووزارة الصحة العراقية لم تقرع أي جرس إنذار، وما زالت أعداد حالات التشوه الخلقي في ارتفاع، وهي أعلى بكثير من النسب المنشورة عالمياً التي لا تتجاوز الخمسة في المئة من الأطفال حديثي الولادة بحسب الدكتورة سميرة العاني، فمن كل ألف ولادة حديثة في الفلوجة هناك 147 طفلاً يحمل عيباً خلقياً، تؤكد ذلك البيانات التي حصلنا عليها.
إحدى الطبيبات العاملات في مستشفى النساء والأطفال، لم ترغب في نشر اسمها، تعيش المأساة في أسرتها بعدما رزق شقيقها بطفلين أطرافهما السفلى متلاصقة. تقول: “المدينة أصبحت بسبب الحرب بؤرة للإشعاعات المميتة والوزارات المعنية تتصرف وكأن الأمر لا يعنيها… نحن من يتكفل بمصاريف العمليات بمساعدة منظمات أوروبية، فيما لم تطرح الحكومة العراقية أي مبادرة حتى اليوم”.
الأرقام الرسمية “غير صحيحة”
بمجرد الحديث عن العيوب الولادية تغلق المصادر الحكومية أبوابها. وتبقى الوثيقة المتاحة أمام الجمهور هي ملخص عن دراسة غير منشورة (أقل من 8 صفحات) كانت وزارة الصحة العراقية أعدتها بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية WHO، عام 2013، وهي عبارة عن نتائج لمسحٍ ميداني ثارت حوله الشكوك وطعن بصحّته لفيف من الخبراء.
الورقة المنشورة على موقع منظمة الصحة العالمية أتت بعنوان “ملخص حول انتشار العيوب الخلقية في 18 موقعاً جغرافياً في العراق”، شملت 8 محافظات عراقية، لكنها لم تحمل أسماء الفريق الذي أشرف على إعدادها. وبسبب ما اعتبر “ضغوطاً سياسية” لم تبحث الدراسة في العلاقة بين استخدام اليورانيوم المنضّب وازدياد معدل التشوهات. وورد على لسان مسؤول عراقي في وزارة الصحة، أن هذا الادعاء “بحاجة إلى أبحاث مفصلة من قبل المؤسسات والوكالات المختصة”.
في أي حال، المفاجأة التي خلصت إليها الدراسة كانت حين سجّلت الفلوجة والبصرة أقل نسب إصابة بالتشوهات الخلقية ونسب الإجهاض ووفيات الأطفال، بالمقارنة مع مواقع لم تشهد قصفاً مماثلاً بالأسلحة المحرمة دولياً. فبلغت نسبة التشوهات في الفلوجة بحسب وزارة الصحة 14.6 بالألف (عُشر النسبة التي سجلها الفريق الطبي العامل في مستشفيات الفلوجة)، بينما كانت في الحلة (محافظة بابل) 25.8 بالألف وفي قضاء الخالص (محافظة ديالى) 20.7 بالألف.
تقول العاني تعليقاً على تلك النتائج: “إنها أرقام مغلوطة. أي طبيب في الفلوجة يعرف هذا”.
كيث بافرستوك من قسم العلوم البيئية جامعة شرق فنلندا، خبير متقاعد عمل مع منظمة الصحة العالمية لمدة 13 عاماً في مجال الإشعاعات وأثرها على الصحة العامة، أكد أن دراسة وزارة الصحة في أحسن الأحوال “مخيبة للآمال”. وقال لصحيفة “الغارديان البريطانية” إن “القرار كان من البداية يحول دون الربط بين العيوب الولادية وبين استخدام الأسلحة القذرة من قبل القوات الأميركية والبريطانية”.
الباحث انتقد افتقار الوثيقة إلى الصدقية العلمية، وأكد أنها “لن تجتاز مراجعة المحررين حتى في واحدة من أسوأ المجلات العلمية”. ويتابع: “هي لم تحاول حتى النظر في السجلات الطبية الموجودة في المستشفيات العراقية التي توثق حالات تم اكتشافها بالفعل من قبل أطباء عراقيين”. ويردف قائلاً: “الأطباء العراقيون كانوا يجمعون السجلات السريرية ويقومون بالإبلاغ عن عيوب خلقية عددها أعلى مما تعترف به الدراسة، لكن بدلاً من ذلك، ركّزت الوثيقة على مقابلات مع أمّهات كأساس للتشخيص”.
لم يأت إلينا أحد
رواية الخبير بافرستوك تجد فصلها الثاني في القصة التي ترويها الدكتورة سميرة العاني عن عملية “فبركة” قامت بها وزارة الصحة لإثبات أن نسب التشوهات الخلقية في قضاء الفلوجة ضمن المعدلات الطبيعية.
تقول العاني: “عام 2012 تواصل معنا في المستشفى خبراء من منظمة الصحة العالمية بغرض الزيارة لمدة أسبوع للاطلاع على ملف التشوهات. مرّت أشهر ولم يأتنا أحد. بعدها سمعت من خلال أشخاص أن هناك موظفين وأطباء يجولون على المنازل ويعدون استبياناً حول الولادات المشوهة. سألت إدارة المستشفى ونفت علمها بإجراء هذا الاستبيان”.
تتابع: “بعدها علمت من إحدى الطبيبات اللواتي شاركن في المسح أن الحكومة أرسلتهم إلى بيوت تحمل عناوين محدّدة وأن العينة لم تكن عشوائية أبداً إنما كانت مدروسة سابقاً ومعلومة لواضعي الاستبيان، وبالتالي هناك احتمال حصول عملية فبركة للوصول إلى هذه النتائج”.
طبيبة من الفلوجة شاركت ميدانياً في إجراء المسح، طلبت عدم نشر اسمها، تقول: “كنا نذهب في الشارع نفسه إلى بيوت محدّدة، ولا نطرق أبواب بيوت أخرى. لا أدري كيف كان الاستبيان في بقية المحافظات وإن حصل الشيء نفسه أم لا، لكن هذا ما حصل في الفلوجة”.
شمل استبيان وزارة الصحة العالمية 10 آلاف و800 شخص في 18 منطقة سكانية في العراق بحسب المعلومات الواردة على موقع منظمة الصحة العالمية. ويعتقد الخبير بافرستوك في تصريحه لصحيفة “الغارديان” إن الطريقة التي تم بها إعداده “مشبوهة للغاية” و”هناك علامات استفهام حول دور الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، إذ لديهما تضارب مصالح مع هذا النوع من الدراسات، بسبب قضايا التعويض التي قد تنشأ من جرّائها”.
صاحب هذا التعليق كان عضواً في هيئة تحرير لمشروع بحثي لمنظمة الصحة العالمية عام 2001، يبحث في مسؤولية الولايات المتحدة وبريطانيا عن المخاطر الصحية والبيئية الناتجة عن نشر اليورانيوم المنضب. وتمّ تجاهل أبحاثه وتوصياته التفصيلية التي تثبت طبيعة اليورانيوم كأحد السموم الجينية القادرة على تغيير الحمض النووي.
كتب بافرستوك في هذا الصدد: “تم حجب مساهمتي في الدراسة، على رغم أن بعض البحوث التي اعتمدت عليها كانت من دراسات صادرة عن البنتاغون (مقرّ وزارة الدفاع الأميركية) وكانت تبحث تأثير اليورانيوم المنضب الذي أطلقته نيران صديقة على القوات الأميركية، وهي تثبت بوضوح أن اليورانيوم المنضب سام جينياً”.
تشير أبحاث عدة نشرت في السنوات الماضية من بينها بحث أجرته جامعة ميشيغان بالاشتراك مع أطباء عراقيين إلى أن اليورانيوم المنضب معدن سمّي ثقيل يمكن أن تصل ذراته للحيوانات المنوية والبويضات، ما يزيد من مخاطر الإصابة بالسرطان والتشوهات الجينية.
استدعوني للتحقيق
عجز مجلس محافظة الأنبار بكل دوراته الانتخابية عن إصدار قرار واحد بإجراء مسح ميداني، أو شراء أجهزة طبية للكشف المبكر عن التشوهات، على رغم الموازنات المخصصة لمشروعات أخرى والتي دائماً ما يتم وصفها بـ”الانفجارية”.
يقول عضو سابق في مجلس محافظة الأنبار: “الساسة المحليون أمسكوا العصا من المنتصف للموازنة بين الضغوط الدولية من جهة، والمطالبات الشعبية من جهة ثانية”.
هكذا سمحت إدارة المحافظة بعقد مؤتمرات تعرض نتائج بحوث مستقلة على غرار بحث جامعة ميشيغان الذي كشف عن وجود نسب عالية من الرصاص والزئبق والمعادن السامة في شعر المواليد الجدد في المدينة وأسنانهم، لكن مشاركة الحكومة المحلية في هكذا مؤتمرات كانت “خجولة أو معدومة”.
وتكشف دراسة الجامعة الأميركية بمشاركة أطباء عراقيين أن معدلات الرصاص تزيد 5 مرات أكثر في شعر أطفال الفلوجة، الذين ولدوا بعيوب خلقية، بالمقارنة مع الأطفال الآخرين. ووجد الباحثون أن هناك زيادة في نسبة الرصاص في أسنان أطفال البصرة 3 مرات أكثر من الأطفال في مدن العراق الأخرى، وهو يؤثر في النظام العصبي المركزي للطفل مسبباً التشنجات والاضطرابات الذهنية والسلوكية وصولاً إلى الوفاة.
يقول الدكتور طالب الجنابي رئيس لجنة الصحة والبيئة في مجلس محافظة الأنبار بين عامي 2008 -2012، إن بعض أعضاء مجلس محافظة الأنبار حاولوا بمفردهم أن يستصدروا قراراً لإجراء بحوث نوعية، إلا أن “وزارتي الصحة والبيئة لم تتعاونا”.
ويضيف: “كانت لي زيارات متكررة إلى وزارة الصحة في بغداد، وكنت أستغل كل المناسبات للوصول الى حلول جذرية لهذه المشكلة، إلا أنني كنت أواجه عقبات كثيرة منها سياسية وأخرى مالية، وكنت أفسرها على أنها ضغوط دولية تجعل من هذه الإجراءات خجولة وربما في أفضل الأحوال لا تتعدى المقترحات التي يتم ركنها على الرفوف”.
تعلق العاني بالقول: “لو تم إجراء بحث ميداني نزيه لتمكّنوا من معرفة أسباب المشكلة وحجمها لكنهم لا يريدون. ولأنني كشفت بعض الحقائق تم استدعائي إلى وزارة الصحة للتحقيق معي وتوبيخي، ولولا رعاية الله وبعض المساندين لي في هذا الملف، لكنت أواجه تهماً عدة ولربما تم إيقافي عن العمل”. وتزيد: “في المقابل هناك دراسات وتقارير حاولت أن تنسب تلك التشوهات إلى الأسلحة التي جلبها صدام حسين لإبعاد الشبهة من القوات الأميركية”.
طبيبة أخرى من مستشفى الفلوجة أشارت بانفعال إلى تجربتها بعدما رفضت الحديث في المرة الأولى خشية من تعرضها للملاحقة، تقول: “إذا أردت أن أتكلم بوضوح عن حالات التشوه فسأبصم بالعشرة أن الأسلحة الأميركية المحرمة دولياً هي المسبّب الأول.”
كابوس الإنجاب
البحث عن أصحاب الصور المعلقة في ردهة مستشفى الفلوجة مهمة شاقة، لا سيما أن المواليد بغالبيتهم فارقوا الحياة بعد فترة وجيزة من ولادتهم، كما أن الأهالي بمعظمهم لا يرغبون في الحديث إلى الإعلام.
كانت الحال مختلفة مع رائد صالح (36 سنة)، وهو عاملّ بأجر يومي ووالد لطفلتين، “عائشة” ذات الخمس سنوات تعاني من ضمور في خلايا الدماغ، والثانية ملاك” عمرها أربع سنوات، ولدت بعين مشوّهة. صالح حمل الطفلتين بين ذراعيه واستقبلنا بترحيب مبالغ فيه في منزله المكون من غرفة واحدة في حي الشرطة شمال مدينة الفلوجة.
“لا يمكن علاجهما داخل العراق” يقول والدهما بأسف، ثم يخفض صوته هامساً كي لا تسمعه الصغيرة يتكلم: “أشعر بضيق صدر وانزعاج عندما أسمع طفلة في الشارع تنعت ابنتي ملاك بالـ(العورة). أخشى على مستقبلها وعلى مصير شقيقتها في مجتمع لا يتقبّل المرضى”.
عائلة صالح قررت اللجوء إلى عقاقير منع الحمل كي لا تتكرر المأساة مرة ثالثة، وهي حال عدد كبير من العائلات الفلّوجية كما يؤكد مسح إحصائي أجراه معدّو التحقيق بالتعاون مع “معهد الشرق للبحوث ودراسات الرأي العام”.
استهدف المسح الذي أجراه فريق التحقيق، 20 صيدلية نصفها في قضاء الفلوجة والنصف الآخر في قضاء هيت (50 كيلومتراً شمال غربي الرمادي) على اعتبار أن القضاءين يتشابهان من حيث التركيبة الاجتماعية العشائرية فضلاً عن عدد السكان المتقارب.
ومن خلال ورقة استبيان تم توزيعها بمساعدة الصيادلة، تبين أن 14 في المئة من المراجعين اليوميين في قضاء الفلوجة يشترون عقاقير مرتبطة بمنع الحمل، في مقابل اثنين في المئة فقط من المراجعين في هيت، علماً أن النسبة العظمى من مشتري هذه العقاقير (86 في المئة) هم من الحاصلين على تعليم متوسط أو عالٍ.
ويعلق الصيدلاني حسن جاسم على هذه النتيجة بالقول: “من الواضح أن الخوف يسود مجتمع الفلوجة وأن كابوس الولادات المشوهة يمنع الناس من الإنجاب”.
فتاوى للإجهاض
ارتفاع معدلات التشوهات الخلقية خلق حالة من التنسيق المستمر بين ناشطين من المدينة ومنظمات غير حكومية نجحت في توفير جهازين مهمّين للكشف المبكر عن حالات التشوه، لكن تنظيم “داعش” حين سيطر على المدينة صادر الأجهزة وأخذها إلى مكان غير معلوم.
تقول الطبيبة (س.) وهي الوحيدة المختصة بصحة الأم والجنين في الفلوجة، إن “جهاز السونار الحديث كان يساعدنا كثيراً في تشخيص العيوب في الأسابيع الخمسة الأولى، فقبل وصوله كنا ننصح أمهات المصابين بعدم الحمل مرة أخرى”.
وتشير الأخصائية إلى أمراض أخرى لا يمكن إدراجها ضمن التشوهات تحتاج للتعرف إليها في مراحل مبكّرة إلى جهاز آخر غير السونار، تكلفته نحو نصف مليون دولار، مثل الاضطرابات في الاستقلاب التي تصيب الأجنة (المتلازمة الأيضية). اليوم يخلو المستشفى من أي جهاز متطور، لذا تلجأ الطبيبة إلى التشخيص بالسونار العادي وتنصح الأمهات بالإجهاض إذا كان هناك شك بسلامة الجنين.
وبسبب الطابع المحافظ للمدينة، حصلت (س.) على فتوى شرعية من رجال دين في مصر والسعودية ومن جمعية إسلامية في لندن، تجيز لها إجهاض الجنين المصاب بالتشوه في الأشهر الخمسة الأولى من الحمل.
وتضيف مع إصرارها على عدم نشر اسمها خشية الملاحقة من جهات حكومية، أن نسبة مرتفعة من الولادات تحصل داخل المنازل على يد قابلات قانونيات، وأن الكثير من الأزواج يرفضون إجراء فحوصات أولية في المستشفى “بالتالي نحن أمام خسارة كبيرة لأدلّة ضد المتهمين بتفاقم هذا الملف”.
الفلوجة وحدها
المنظومة العشائرية التي تتفاخر بالسلالة السليمة، جعلت أمهات في الفلوجة يدفعن الثمن، كما حصل مع أسرة عبد الرحمن الحلبوسي التي تفككت بسبب ولادة مشوهة.
الحلبوسي طلّق زوجته الأولى بعد وضعها مولودها، وعزف عن الزواج.
خلال إجراء هذا التحقيق سمعنا قصصاً كثيرة عن أسر تفككت أو لجأت إلى العزلة أو منعت أطفالها من الحركة خارج المنزل، في ما يشبه الحبس الإجباري مدى الحياة.
وتبقى الحالات التي بين أيدينا، على رغم كثرتها لا تشكل حتى الآن دليلاً مادياً على مسؤولية القوات الأميركية والبريطانية عمّا حدث، لكنها تشير وبقوّة إلى أن حكومة بغداد لا ترغب في البحث عن الحقيقة ولا في تحريك الملف قانونياً، وتؤكد أن وزارة الصحة غائبة كلياً عن متابعة حال المصابين والتكفل بمصاريف علاجهم.
فرجل مثل عادل كامل (37 سنة) الذي يقطن حي الشهداء جنوب مدينة الفلوجة دفع حتى اليوم 15 ألف دولار، لعلاج ابنه عبدالله (6 سنوات)، من دون أن تساهم الحكومة العراقية بفلسٍ واحد على حد وصفه. يقول الوالد: “عبد الله، يعاني من فتحة في المثانة ومن عيوب وتشوهات في جهازه التناسلي، وبحسب الأطباء الذين شخصوا حالته في إقليم كردستان، فإن تكلفة العلاج والجراحات التجميلية تصل إلى أكثر من 30 ألف دولار مع عدم وجود ضمانات كاملة بنجاح التدخل الجراحي”.
يتواصل كامل مع منظمة فرنسية لتأمين نفقات العملية المقبلة التي سيجريها لولده في العاصمة الأردنية عمّان إذ تخلو الفلّوجة من اختصاصيين في هذا المجال.
هو مجرد ضحية أخرى في هذه المدينة التي تصارع وحدها خطر التشوهات الخلقية منذ 15 عاماً. أما الأطباء الذين التقيناهم خلال إعداد هذا التحقيق فيؤكد الصلة بين هذه الحالات والأسلحة الكيماوية، ويقولون إن كل الإمكانات المتوفرة لديهم حالياً لا تساعد على إجراء فحوصات مخبرية على عينات من أجسام الضحايا للوصول إلى الحقيقة، وأنه لا بد للجوء إلى مختبرات في أوروبا أو في دول مجاورة.
هؤلاء الأطباء من دون استثناء تقريباً كانوا يخفضون أصواتهم عند الحديث عن ملف التشوهات، وكانوا يطلبون عدم نشر أسمائهم، أو نشر الأحرف الأولى منها. معظمهم يخاف من الملاحقة السياسية أو الفصل الوظيفي أو من أن تستدعيه وزارة الصحة في بغداد، وتوبّخه على المعلومات التي أدلى بها.
المصدر: كمال العياش- DARAJ