بقلم: شعبان ياسين -باحث في تاريخ الثورة الجزائرية ومدير متحف المجاهد لولاية قالمة |
لم تعد المتاحف تلك الاماكن لتخزين و عرض المقتنيات واللقى التاريخية فقط ، بل تطور دورها في السنوات الاخيرة نتيجة التطور الهائل لتكنولوجيات الاتصال ، فامتد مجاله وأصبح حيويا فضلا عن المعروضات والزيارات ليشمل أيضا المحاضرات والملتقيات والندوات وإحياء المناسبات للصغار أيضا والنشرات واستخدام الوسائط الالكترونية – سيكون لنا موضوع عن تجربتنا بهذا المجال – .
ومن بين الاعمال التي يقوم بها متحف المجاهد بقالمة من هذا القبيل هي عملية جمع الشهادات الشفوية الحية من أفواه صانعي الملحمة النوفمبرية – نسبة لثورة أول نوفمبر 1954- وتوثيقها بغرض الوصول الى تاريخ مكتوب مكمل للمصادر الاخرى ، فالشهادة التاريخية الشفوية عاكسة لتجربة الشاهد ودوره في الفعل التاريخي ذاك بحكم موقعه في تلك اللحظة التاريخية ولا تاريخا حقيق لزمن الحاضر بدونها ، وهي كذلك ليست بديلا أوحد ، وفي هذا الصدد أرى حسب خبرتي ورأيي المتواضعين أن الاعتماد على الشهادات الحية حري بأن يرفع احتكار كتابة التاريخ بالنظرة الاستعمارية عند الاعتماد المفرط على الوثائق والأرشيف الفرنسي الذي جانب كبير منه مغيب للحقيقة أو جاحدا لها أو موسومة بالذاتية الاستعمارية المتحيزة .
ومتحف المجاهد لولاية قالمة في سباق مع الزمن لجمع أكبر عدد من الشهادات الحية وهذا بالنظر للعامل الزمني لحياة الانسان حيث أن جل من شاركوا في الثورة التحريرية تجاوزوا السبعين عاما كثير منهم يرحلون في صمت وتدفن معهم بالتالي الكثير من المعلومات والانجازات والتضحيات ، كما أن الانسان مهما كانت قوة ذاكرته نساء بطبعه، ولا يخفى على أحد أن مع مرور الزمن تتذبذب الذاكرة وعليه يمكن أن نعتبر ” شهادة ” كل تصريح أو مجموعة معلومات أو وصفا لحادثة تاريخية ترتبط ولها علاقة عضوية بسياق من سياقات ثورة التحرير العسكرية أو السياسية أو الاعلامية يدلي بها أحد صانعي الحدث سواء كانوا أعضاءا بجيش التحرير الوطني أو أعضاءا بالمنظمة المدنية لجبهة التحرير الوطني أو حتى شهود عيان شاهدوا أو حضروا أو عايشوا أحداثا ووقائع الثورة التحريرية بهدف كشف الكثير من الحقائق التي تساعد في الحفاظ على الذاكرة الوطنية وكتابة تاريخ الثورة من أفواه صانعيه ، ثم تليها خطوة وضع هذا الشهادة المسجلة – صوتا وصورة – بعد تحضيرها ومعالجتها بمكتبة المتحف الى تضم الكثير من الكتب باللغتين – 823 عنوان باللغة العربية و 203 باللغة الفرنسية – التي نضعها بين أيدي الباحثين والمؤرخين والطلبة والمثقفين والمهتمين بالبحث في تاريخ الثورة والدارسين وحتى المواطنين لتوظيفها في بحوثهم ودراستهم .
وقد نجح متحف المجاهد لولاية قالمة خلال السنوات القليلة الماضية في جمع عدد معتبر من الشهادات الحية بعد جعلها أولوية مستعجلة من طرف السلطات الوصية ممثلة في شخص السيد وزير المجاهدين وذوي الحقوق ” الطيب زيتوني ” والذي في كل مرة يؤكد على أهمية وقيمة هذا الانجاز من طرف دائرته الوزارية بمختلف مصالحها الخارجية والتي من بينها المتحف الولائي للمجاهد لولاية قالمة الذي جمع خلال سنة 2019 عدد من الشهادات الحية يقدر بـ 169 شهادة حية بحجم ساعي يقدر بـ 170 ساعة و22 دقيقة و14 ثانية ، وهي اضافة لمئات الشهادات والساعات التي جمعها المتحف الولائي للمجاهد بقالمة خلال السنوات الماضية لتضاف الى ألاف الساعات التي جمعتها الوزارة وبحسب تصريح سابق لوزير القطاع فقد تم جمع أكثر من 15 ألف ساعة من التسجيلات الخاصة بالشهادات الحية ، والعملية متواصلة على قدم وساق بمتحفنا طوال السنة من طرف موظفين مؤهلين ومختصين بتسجيل الشهادات الحية بكل أشكال وطرق الجمع ابتداء من استقبال المجاهدين والمناضلين وذوي حقوقهم بالمتحف أين تم تخصيص قاعة خاصة مهيأة لتسجيل الشهادات الحية على شكل أستوديو مصغر ويتم تسجيل الشهادة الحية صوتا وصورة ،أما أصحاب الشهادات الحية العاجزين عن الحضور الى المتحف فنقوم بالتنقل الى مقرات اقامتهم أو مكاتب منظمة المجاهدين بذات البلدية مقر الاقامة أو التنقل الى مراكز الاستقبال المخصصة لهم من أجل العلاج وإعادة التأهيل لنستغل فترة نقاهتهم ونقوم بالتسجيل معهم هناك بعد نقل الأجهزة اللازمة للتسجيل خارج المتحف وعبر كامل تراب ولاية قالمة و أحيانا خارجها حينما يبلغنا وجود شهادات حية لأصحابها الذين يقطنون خارج الولاية ويتعذر عليهم الحضور بأنفسهم الى مقر المتحف .
أما فيما يخص عملية التسجبل وتقنياتها فإنها تخضع لنموذج عام معتمد نعمل به وفي عملية الاستجواب اذ لابد على الموظف المكلف بتسجيل الشهادة الحية أن يعمل على تهيئة أسئلة الاستجواب والتكيف والتفصيل مع النموذج الذي يحتوي على معلومات عامة عن الحالة المدنية للمستجوب من حيث الاسم واللقب والاسم الحربي وغيرها من أسئلة الحالة المدنية ثم السؤال عن مهنة صاحب الشهادة الحية قبل الالتحاق بثورة التحرير ثم تاريخ الالتحاق بالثورة والصفة ، أي مقاتل أو مناضل أو مكلف بمهام من مهمات الثورة المختلفة ومنطقة عمله خلال الثورة والرتب والمسؤوليات التي تقلدها خلالها ، كما نبحث من خلال الاستجواب عن نبذة عن النشاطات السياسية التي قام بها صاحب الشهادة قبل اندلاع ثورة نوفمبر 1954 ثم نبذة عن النشاطات السياسية والعسكرية التي مارسها صاحب الشهادة الحية من سنة 1954 تاريخ اندلاع الثورة الى سنة 1962 تاريخ الاستقلالو بعدها يأتي الدور على المعارك أو العمليات الفدائية التي شارك فيها أو قادها والجروح التي يكون قد أصيب بها وهل وقع في الاسر أم لا وان كان الجواب بالإيجاب ذكر مكان وتاريخ الاعتقال وأيضا ان استطاع المستجوب الفرار أو ظروف تسريحه منه كما نسأل صاحب الشهادة الحية عن الوظائف والمسؤوليات التي كلف بها بعد الاستقلال وفي الاخير نترك للمستجوب افادتنا بمعلومات اضافية ان وجدت ، لذلك وجب أن يكون الاستجواب محضر جيدا وذلك بمعرفة الشخص كما يجب ليعرف مسجل الشهادة ماذا يريد معرفته منه تحديدا ، وما ننتهي اليه في الاخير عبارة عن مادة خام يتم تسليمها للمتحف الوطني للمجاهد باعتباره الجهة المكلفة بهذه المهمة من قبل الوزارة الذي يقوم بدوره بعرضها على لجنة علمية مختصة تقوم بالتدقيق فيها ودراستها وإعدادها في صورة نهائية لتوضع بعدها تحت تصرف الباحثين والمؤرخين والمهتمين بتاريخ ثورة نوفمبر 1954 .
وفي ختام هذا المقال أقول أنه و بالنظر لما تقدم من أهمية الشهادات الحية في كتابة تاريخ الثورة بكل بطولاته وتضحياته وآلامه فحري بــ وواجب على كل الجزائريين لمخلصين الاوفياء لمبادئ وقيم نوفمبر وليس فقط الباحثين والمؤرخين والمؤسسات المتحفية تسجيل شهادات ذويهم وأقاربهم ممن عايشوا تلك الفترة التاريخية من تاريخ أمتنا تجرع خلالها الشعب الجزائري مرارة الاستعمار من تقتيل وسجن وتهجير وقهر وظلم أو تقريبهم للجهات التي تقوم بهاته الوظيفة كمتحف المجاهد لولاية قالمة الذي يقوم بها بكل فخر واعتزاز ، ويعد هذا بمثابة نداء موجه الى كل الجزائريين داخل وخرج الوطن .