“حزام وطريق واحد” هي مبادرة عملاقة أطلقها الرئيس الصيني تشي جينبينغ، ورئيس الوزراء لي كقيانغ، خلال زيارات لعدد من الدول الآسيوية والأوروبية في العام 2013، وأصبحت بعدها محور السياسة الخارجية الصينية. وقد قيل في مشروع “حزام وطريق واحد” الصيني، الممتد عبر آسيا وشرق أوروبا ووسطها وشرق إفريقيا، أنه ربما يكون أكبر مشروع استثمار وبنية تحتية في التاريخ، فهو يشمل حتى الآن 68 بلداً، تضم أكثر من 65% من سكان العالم، ويقوم على إعادة إحياء “طريق الحرير” القديم الممتد من أقصى شرق آسيا إلى موانئ إيطاليا، عبر الوطن العربي طبعاً. أما المشروع الجديد فتكفي نظرة واحدة لطرق تمدده لنرى أنه أشبه بأخطبوط جغرافي-سياسي مركزه الصين ويتألف من شقين، بري (بالأسود، كناية عن الطرق وسكك الحديد) وبحري (بالأزرق)، وهدفه تأسيس بنية تحتية عملاقة تتيح زيادة التواصل والتبادل بين الدول المشاركة فيه وهو ما يتوقع أن يطلق العنان لارتفاع التنمية الاقتصادية في الدول المشاركة إلى مستويات غير مسبوقة، ولتحويل منطقة أوراسيا، الممتدة بين أوروبا وشرق آسيا وصولاً إلى أستراليا، والمعروفة لدى علماء الجغرافيا السياسية باسم “قلب العالم”، إلى كتلة متراصة من النشاط الاقتصادي والسياسي والثقافي، مما يحوله إلى مركز ثقل العالم، مقابل كتلة “أوروبا الغربية-شمال أمريكا”، وهو الجوهر الحقيقي لمشروع “حزام وطريق واحد”.
الفرق بين هذا المشروع الصيني، والأحلاف السياسية والعسكرية والاقتصادية التي تتمحور السياسة الروسية حولها، أن “حزام وطريق واحد” قد يبدو أقل صداميةً مع منظومة الهيمنة الغربية من المشروع الروسي، سوى أنه ينحت بشكلٍ أقل ضجيجاً، وأكثر بطئاً ورسوخاً وديمومةً، أساسات مشروع نظام عالمي جديد، تحت عناوين تنموية لا تتصادم مباشرة وعلناً مع الغرب، بل قد تبدو للوهلة الأولى كأنها جزءٌ من سياق العولمة، لكن جوهرها هو مشروع قومي صيني يعيد تشكيل البيئة الاستراتيجية للعالم ويغير خريطة ميزان القوى العالمي لمصلحة الجنوب والشرق فعلياً، ويجعل من كتلة روسيا-الصين-الهند مركز الاقتصاد العالمي، مع جسورٍ باتجاه جنوب القارة الأمريكية، والقارة الإفريقية، وهو ما تمثله منظومة “بريكس” فعلياً.
ويذكر أن روسيا الممتدة عبر القارتين الأوروبية والآسيوية تعتبر الفكرة الأوراسية جوهريةً لوجودها ولاقتصادها ولأمنها القومي، ومن هنا فكرة الاتحاد الأوراسي الذي انطلق رسمياً في 1/1/2015 من كتلة تضم روسيا وبيلوروسيا وكازاخستان، انضمت إليها قرغيزستان وأرمينيا، وقد قدم الاتحاد الأوراسي عروضاً لعددٍ من الدول المجاورة الانضمام إليه، منها تركيا، وأوكرانيا، وجورجيا، ومولدوفا، لكن هذه الدول فضلت الانضمام للاتحاد الأوروبي، مثل أوكرانيا التي أدى قيام رئيسها السابق فيكتور يانكوفيتش بتمزيق اتفاق انضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي من أجل متابعة طلب الانضمام للاتحاد الأوراسي إلى “الاحتجاجات” البرتقالية المعروفة التي فجرت الأزمة الأوكرانية، ولاستعادة روسيا لشبه جزيرة القرم. أما تركيا، فقد واصلت سعيها للانضمام للاتحاد الأوروبي، ومن المهم جداً الانتباه أن الصين وإيران وقعتا اتفاقيات تجارة حرة في شهر أيار/مايو الفائت هذا العام مع الاتحاد الاوراسي، كانت فيتنام قد وقعت مثلها منذ العام 2015.
وكجزء من مشروع “حزام وطريق واحد” الصيني، دعا رئيس الوزراء الصيني لي كقيانغ في آذار/ مارس عام 2014 إلى تسريع العمل في الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان، الذي مضى شوطاً لا بأس به الآن، وفي الممر الاقتصادي المجاور بين بنغلادش والصين والهند وميانمار (بورما)، ويتطلب الأمر قدراً كبيراً من السذاجة والبلادة الذهنية لكي لا يربط المرء بين حاجة الغرب لقطع الطريق على هذا المسار من “طريق الحرير” الجديد، وبين انفجار أزمة “الروهينجا” بعدها بأشهر قليلة…
ويتضمن مشروع “حزام وطريق واحد” عدداً من المسارات الأساسية، وأخرى فرعية، وقد تم افتتاح الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني كجزء من هذا المشروع رسمياً عام 2016، بشحنات بضائع صينية وصلت براً إلى ميناء قوادار الباكستاني لتشحن بعدها بحراً إلى إفريقيا وغرب آسيا، وقد تضمن ذلك 62 مليار دولار من الاستثمارات في تحديث البنية التحتية الباكستانية، وقطاع الطاقة والاقتصاد الباكستاني.
وهنالك ايضاً مسرب الجسر الأوراسي البري الجديد، الذي يربط الصين مع غرب روسيا عبر كازاخستان، ويتضمن سكة حديد طريق الحرير عبر إقليم جين جيانغ الصيني المسلم (الذي يسميه الانفصاليون الإيغور تركستان الشرقية)، والممتد عبر كازخستان وروسيا إلى بولندا وألمانيا.
وهنالك مسرب الصين عبر منغوليا إلى شرق روسيا، ومسرب آخر من غرب الصين عبر آسيا الوسطى إلى تركيا، ومسرب آخر من جنوب الصين عبر الهند الصينية وصولاً إلى سينغافورة.
وتتمم تلك المسارب البرية مسرب بحري عملاق يمتد من بحر الصين الجنوبي (الذي تتم إثارة مشكلة الوجود الصيني فيه) عبر جنوب المحيط الهادئ وصولاً للمحيط الهندي، وصولاً إلى شرق إفريقيا، فالقرن الإفريقي، فالبحر الأحمر، فقناة السويس، فالبحر المتوسط، فالموانئ الاوروبية الجنوبية وموانئ جنوب المتوسط العربية. ويجعل هذا المعبر البحري من “حزام وطريق واحد” للعرب ودولهم أهمية جوهرية.
تمويل كل تلك المشاريع ليس قصة سهلة بالطبع، حتى بالنسبة لدولة مثل الصين تملك أكثر من 3 ترليونات من الدولارات من احتياطيات العملات الأجنبية، ولكن كخطوة على طريق تحقيق هذا المشروع الضخم والتاريخي، تم رسمياً الإعلان عن تأسيس “بنك الاستثمار الآسيوي في البنية التحتية” في 29 حزيران/يونيو 2015 في بكين، برأسمال أولي قدره 100 مليار دولار (رأس مال البنك الدولي World Bank هو 200 مليار)، أسهمت فيه 57 دولة، ليست اليابان والولايات المتحدة منها، ونلاحظ أن الصين دفعت حوالي 30 مليار في المشروع، والهند أكثر من 8 مليار، وروسيا أكثر من ستة مليارات ونصف، وألمانيا حوالي 4 مليارات ونصف المليار، وكلٌ من استراليا وكوريا الجنوبية حوالي 3 مليار و700 مليون، وكل من أندونيسيا وفرنسا أكثر من 3 مليار وثلث المليار، وبريطانيا 3 مليارات، وكل من إيطاليا والسعودية وتركيا أكثر من مليارين ونصف المليار، وإسبانيا شاركت بمليارين إلا ربعاً، وإيران أكثر من مليار ونصف المليار، وتايلند أقل من ذلك بقليل، وكل من هولندا وباكستان والإمارات أكثر من مليار، وكل من كندا والفليبين حوالي المليار، ومصر 650 مليوناً، وبنغلادش 660 مليوناً، وقد شارك الكيان الصهيوني في البنك بثلاثة أرباع مليار دولار. ولم تشارك المكسيك ونيجيريا، كقوى إقليمية، في هذا المشروع، فيما نلاحظ المشاركة المكثفة للاتحاد الأوروبي، وتظل الصين طبعاً مالكة الحصة الأكبر.
العبرة هي تعميم النموذج الصيني في التنمية: التركيز على الاستثمار في البنية التحتية والإنتاج المادي الملموس، والنظر للتنمية الاقتصادية في إطار دورة طويلة المدى، بدلاً من التركيز على المدى القصير والنتائج السريعة نسبياً والاقتصاد النقدي الذي يميز المدارس الاقتصادية الغربية، ولكن الأهمية الجغرافية السياسية للمشروع الصيني تتجاوز أهميته الاقتصادية، وهو مشروعٌ عالمي لدولة قومية صينية يسعى لإيجاد وتوسيع التقاطعات مع القوى الإقليمية في كل القارات، إذ لا يمكن أن ننسى الاستثمارات الصينية المكثفة في إفريقيا، التي تحتل فيها مصر المركز الأول بين عامي 2003 و2017، تليها نيجيريا، تليها الجزائر في المركز الثالث، والاستثمارات الصينية المكثفة في أمريكا الوسطى والجنوبية والتي يفترض أن تكون قد بلغت 250 مليار دولار من الاستثمار الأجنبي المباشر، و500 مليار دولار من التبادل التجاري بين عامي 2015-2019.
المشروع الصيني بما يتضمنه من فرص لخلق عالم متعدد الأقطاب، ولإضعاف الهيمنة الإمبريالية والغربية، ولخلق فرص تنموية حقيقية في الاقتصاد العربي، هو مشروع نتقاطع معه كعرب إلى حدٍ بعيد، ولكن يبقى القول أنه في وقتٍ تتصاعد فيه المشاريع الدولية والإقليمية الصديقة والمعادية، فإن السؤال الأهم يظل: أين المشروع القومي العربي الذي يسمح أن يكون لنا مكانٌ على هذه الكرة الأرضية يليق بحجمنا الجغرافي والسكاني والاقتصادي؟ فلا الحليف ولا العدو سوف يقيم وزناً للقوى الضعيفة المفككة، وإذا لم نرغب بأن نكون حقل نفوذ، أو حقل صراع على النفوذ بين الكتل الضخمة، فإن علينا أن نفكر بمشروع عربي خاص بنا، مشروع يتيح لنا أن نتحالف مع من يحالفنا، وأن نعادي من يعادينا، من موقعٍ ندي على الأقل.