يتكرر المشهد وتصدح الأصوات المطالبة بنصرة الإسلام لتحرير القدس؛ لكن وخلافاً لحشد الشباب الفلسطيني الذي تم أواخر سبيعينيات القرن الماضي وبداية ثمانينياته وإرسالهم إلى أفغانستان نصرةً للإسلام عبر انخراطهم في صفوف حركة المقاومة الأفغانية المدعومة من الولايات المتحدة الأميركية حينه رغم أن بضعة أمتار فقط كانت تفصلهم عن القدس المحتلة، تطالب الأصوات ذاتها بالتحشيد لبدء عملية التحرير من باريس ! ولا زالت القدس تبعد عنهم بضعة أمتار، ولا زال جنود الإحتلال الإسرائيلي يتغولون بطشاً وتنكيلا بشعبهم الذي من المفترض أنهم من بين صفوفه خرجوا.
لكأن حالة الخصام بين حزب التحرير وفلسطين ثابتة ومستمرة، فلا احتلال القدس وعملية تهويدها المستمرة هدفهم ولا القضايا الوطنية شأنهم، بل إنهم يجدون في كل جريمةٍ تُرتكب بحق أبناء شعبهم وبكل استلابٍ للأرض الفلسطينية والحقوق التاريخية قضيةً مؤجلة لا تعنيهم، ففي استعراضٍ لمسيرة الحزب منذ نشأته إلى يومنا هذا (بعيداً عن الحسبة المشروخة في ميزان الشعوب التي تسعى التحرر والخلاص) نلمس التنافر الواضح بين كل فعلٍ نضالي أقدم علي الفلسطينيّون ضد الإحتلال الإسرائيلي منذ منتصف القرن الماضي وبين توجهات وأهداف الحزب. الحال الذي يضعنا أمام التساؤل الكبير : هل يتناقض تحرير فلسطين ونصرة قضيتها وصون كرامة شعبها ومنطلقات الدين الإسلامي السمح ! الدين الذي جاء رسالة الله لخير البشر وإحقاق الحقوق وتجسيد العدل والسلام، السلام والحق والعدل والتي هي لله عزّ وجلّ أسماء.
من تحت فوهات بنادق جنود الإحتلال الإسرائيلي طالب أنصار حزب التحرير في فلسطين فتح الحدود كي يتمكنوا المشاركة في موقعة (باريس) دفاعاً عن رسول الله وخير أنام البشرية ! الرسول الكريم الذي وصف أبناء شعبهم بأنهم “على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم مَن عاداهم وهم في رباطٍ إلى يوم الدين” لكن وعلى ما يبدو أن هؤلاء الأنصار يرون في باريس ما هو أجدى من الرباط على أرض فلسطين والأجدر من تحرير مسرى نبينا بما يبذلونه ويحشدوا له ! نعم؛ وكما يبدو فإن رصاصهم وصراخهم وتلويح أذرعهم ومنذ تاريخ ثورة شعبهم انطلق وَسُخِّر لكلّ وجهةٍ دون قادة الكيان الغاصب مجرمي الحرب أو مَنْ أدار الآلة العسكرية التي نهشت لحم أبناء شعبهم وهدرت دماءهم، وعليه فإن سجلهم في حزب التحرير ناصعٌ خالٍ من كلّ فعلٍ تحرري وكل موقعة كان بإمكانها أن تمنحهم شهادة الالتحاق بركب شعبهم في مسيرته النضالية التحررية.
أمام هذا النموذج المسمى بـِ(حزب التحرير) كما باقي النماذج (المشاريع الاستعمارية ذات الطابع الديني) التي تركبت من وبين شعوبنا واتخذت من العقيدة وجهاً لها وستاراً يمنحها جواز المرور بظلِ مناخاتٍ هيأت انتشارها ومكّنتها بين الشعوب التي عانت ولا تزال أصعب الظروف، خدمةً لمصالح الاستعمار في منطقتنا العربية والتي تلخصت بالقضاء على الإرادات الوطنية وطمس الهويات وهدم الحضارات، بات استنهاض الإرادة الوطنية وتعزيز أدوارها ضرورةً مُلحة بل على رأس الأولويات، كون تلك النماذج تشكل التحديات البنيوية أمام كلّ فعلٍ تحرري إذ أن إنساننا هو هدفها الأساس. الأخطر في هذا السياق هو تنامي القوى اليمينية في الغرب والتي تتبنى ذات المنطلقات والمنهجيات العقائدية التي كوّنت فكر الاستعمار سالفاً، الحال الذي نشهده في المواقف المنسجمة بين قوى اليمين لدى المجتمع الأميريكي والإسرائيلي مؤخراً .
لقد كفلت الشرائع على اختلافها حق حرية ممارسة الأديان ودعت لاحترامها ولهذا الهدف تبلورت الرؤى واتحدت الجهود سعياً لإيجاد الحوار المتزن بين الأديان والتصدي بذات الوقت لكل ما من شأنه تعميق الكراهية وخطابها ونشر الفكر المتطرف المتخذ من الأديان جسراً له. ويبدو أن ما تشهده فرنسا من أعمال إرهابية هو فصلاً من تلك التي مهدت لقوى عديدة استباحة دولاً بأكملها، بل وتمنح قوى اليمين المتشدد في أوروبا ورقةً رابحة في وجه السلم العالمي والشرعة الدولية. لقد منحت تصريحات الرئيس الفرنسي (إيمانويل ماكرون) قوى اليمين على اختلافها الفرصة لتعميق النزاعات في مناطقٍ عدة وغذّت موجةً أخرى من العمليات الإرهابية، كونه مكّن تلك الأطراف الحاضنة للجماعات المتشددة من الأسباب المؤدية لتمديد رقعة المساحات المُستهدَفة من قِبل الجماعات المتطرفة في منطقتنا وتحديداً في شمال أفريقيا، وما تصريحات الرئيس (رجب طيب أردوغان) إلا دليل ذلك، ليغدو العالم أمام بقعٍ جديدة ستقع ضحية النزاعات العقائدية، ليُمسي تهديداً آخراً لمدنية المجتمعات وتحدّياً للإرادة الدولية. بخضم ذلك كله تبقى القدس المحتلة بعيدةً عن أولويات حملة شعار “الإسلام هو الحل”؛ تلك الجماعات والأجسام التي مكّنت قوى الاستعمار من تمزيق بلداننا وسلب حقوقنا وذبح إنساننا ونهب مواردنا.