إن مشكل تونس اليوم يكمن في نخبتها السياسية التي لم تثبت طيلة تسع سنوات على الثورة أنها قادرة على أن تعلو فوق مصالحها الحزبية الضيقة الى الصالح العام الذي هو الهدف الحقيقي لكل عمل سياسي يغلب مصلحة الوطن على المصالح الضيقة و المحاصصة الحزبية الرخيصة.. يعكس الوضع الراهن بشكل واضح مدى الأزمة المزمنة التي تعانيها الطبقة السياسية، حيث بدت هذه الطبقة طوال الوقت متشرذمة وغارقة في دوامة لا تنتهي من الخلافات والانقسامات، فضلا عن حالة التوتر والمناكفة السياسية والتخوين وهو ما سمح لأطراف خارجية بالتدخل وتعميق الأزمة لإرباك المشهد السياسي و لإستهداف المسار الديمقراطي الذي هرمنا من أجل تحقيقه ولا يمكن أن يذهب أدراج الرياح..
دخلت مشاورات تشكيل حكومة المشيشي ، الأسبوع الثالث، ولاتزال الإختلافات بين رافض و مؤيد ، بين الأحزاب وتعنت حركة النهضة، ورفضها تشكيل حكومة مستقلة، وهو ما يصعب الأمور على تشكيل الحكومة، فيما يرى البعض أنه من الصعب أن تشكل حكومة مستقلة تماما ، وإن تشكلت فستكون “هشة” عاجزة عن الصمود أمام التحديات الراهنة والمستقبلية، داعين إلى حكومة إنقاذ سياسية تحضى بحزام سياسي و برلماني قوي.. حكومة الفرصة الأخيرة و مستقلة تماما قد تكون صفعة قوية وغير متوقعة للطبقة السياسية برمّتها، و لابد ان تستخلص عبرة من هذا الدرس، و تساهم في استفاقة من غيبوبة سياسية، ربما يتجاوزوا صراعاتها الجانبية و الوهمية و يتحملوا وزر ماجنت به على نفسها براقش..
حدة الاختلاف والتناقض بين الفرقاء السياسيين كبيرة جدا، وهذا ما يجعل إمكانية تكوين حكومة تجمع الأطراف السياسية وتضمن الحد الأدنى من الاستقرار السياسي في البلاد مستحيلة. وفقدان الاستقرار هو أحد أهم أسباب الأزمات التي تعيشها تونس منذ سنوات فاقمت من تردي الأوضاع المعيشية ومعدلات البطالة ووسعت من دائرة الفقر، وذلك بالتزامن مع أزمة سياسية غير مسبوقة ، وهو ما يعني أن مسار الإصلاح سيضل رهينا لمدى نجاح السيد هشام المشيشي المكلف بتشكيل حكومة جديدة تكون متجانسة وذات حزام سياسي واسع يفسح لها المجال للتحرك بحرية لإنقاذ البلاد من الانزلاق نحو الإفلاس.. نأمل ان تتشكل الحكومة وتجمع اكبر عدد ممكن من الفرقاء لضمان حزام برلماني قوي للخروج من هذا المأزق السياسي لأن تعطيل المسار هو إستهتار كامل بمصلحة الدولة بعد أن طالت مرحلة التذبذب والإرتباك والفوضى والإستهتار أكثر من اللزوم وتواصل تدهور الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية والسياسية ، و الشعب نسي مشاغله جراء تعفن المشهد السياسي و ﻓﻘﺪ الثقة ﻓﻲ ﺍﻟﻨﺨﺐ ﻭﺍﻟﻄﺒﻘﺔ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ، ﻭﺭفض ﺍﺳﺘﻤﺮﺍﺭ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﻟﻬﺬﻩ ﺍﻟﻄﺒﻘﺔ في حد ذاتها ..و جميع المؤشرات الراهنة تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن تونس تتجه تدريجيا إلى خريف اقتصادي واجتماعي صعب وساخن، خاصة وأن الأحزاب السياسية باختلافها، يتعاملون مع الملف الاقتصادي والحراك الاجتماعي من منطلق الحسابات السياسية الضيقة..
الحكومة الجديدة التي سيتم تشكيلها قادرة على أن تمر وتكسب ثقة البرلمان اذا ما تم تطعيمها بشخصيات مستقلة تماما و كفاءة و تكون محل توافق سياسي، و ان لم يكن هناك توافق ستمر حتما و تكون حكومة الخوف من حل البرلمان ولكن تبقى تعاني من هشاشة الحزام السياسي الداعم لها..
ساعات مقبلة حاسمة في زمن حكومة المشيشي ، في ظرف دقيق وطنيا إقليميا من أجل المرور بحكومته، ونسج تحالفات جديدة، في حكومة مستقلة تماما عن الأحزاب ، سيناريوهات محدودة قد تحسم لفائدة حكومته أو قد تذهب بالتونسيين إلى العودة مجددا إلى صناديق الاقتراع لاختيار ممثليهم في البرلمان، وهو أبغض الحلول في البلاد في الظروف الراهنة إقتصاديا واجتماعيا..
في خضم هذه المتاهة السياسية المعقدة تكمن الأزمة الآن في وعي الطبقة السياسية، لم تدرك حتى الآن ان القضية لم تعد قضية صراع التموقع و إقتسام ” الكعكة” ، و ﺍﻟﻤﺴﺄﻟﺔ ﻫﻲ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﺇﻧﻘﺎﺫ ﻭﻃﻨﻲ، ﻷﻥ ﺗﻮﻧﺲ ﺗﻮﺍﺟﻪ ﺧﻄﺮﺍ ﺍﻗﺘﺼﺎﺩﻳﺎ ﻭﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺎ ، ﻭﻧﺤﻦ ﻧﺨﺸﻰ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺮﺣﻠﺔ ﺍﻟﻘﺎﺩﻣﺔ ﻣﻦ ﻫﺒﻮﺏ ﺍﻧﺘﻔﺎﺿﺔ ﺟﺪﻳﺪﺓ ﺳﺘﺄﻛﻞ ﺍﻷﺧﻀﺮ ﻭﺍﻟﻴﺎﺑﺲ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﺍﻟﺤﺎﻝ ﻓﻲ ﻟﺒﻨﺎﻥ ﻭﻟﺬﻟﻚ لابد من ﺗﺸﻜﻴﻞ ﺣﻜﻮﻣﺔ ﺇﻧﻘﺎﺫ ﻭﻃﻨﻲ ﻣﻦ ﺃﺟﻞ ﻣﺠﺎﺑﻬﺔ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﺯﻣﺔ ﺍﻟﻘﺎﺋﻤﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﻼﺩ ﻭﺇﻳﺠﺎﺩ ﺍﻟﺤﻠﻮﻝ ﺍﻟﻤﻨﺎﺳﺒﺔ ﻟﻬﺎ..
ولا يزال رئيس الحكومة المكلف يجري مشاورات لحكومته، بسبب الرفض الواسع للأحزاب في البرلمان لقبول حكومة مستقلة التي أعلنها سابقا، و يبقى السؤال مطروحا حول سيناريوهات المرحلة القادمة ؟
حكومة كفاءات مستقلة هل تكون نقطة تحول حاسمة في المشهد السياسي التونسي و تكون قادرة على تجميع اكبر عدد ممكن من الفرقاء لضمان حزام سياسي واسع لأن المعركة القادمة هي معركة إنقاذ البلاد والعباد من الإنهيار الخطير و الوشيك.. ؟