تشتعل المنطقة ترقباً وتكهنات حول ما ستؤول إليه المواجهة بين إدارة ترامب وبين إيران، وكذلك بين محور المقاومة عموماً وبين الحلف الصهيوني- الرجعي العربي حول الملفات الإقليمية، في وقتٍ تصاعدت فيه حدة الخطاب الأمريكي إزاء إيران، كما عبّر عنه يوم الإثنين الفائت وزير الخارجية مايك بومبيو حين توّعد إيران بـ «أقوى العقوبات في التاريخ… هي مجرد البداية» إذا لم تذعن طهران لمجموعة من الشروط الأمريكية التعجيزية.
وتعبر لهجة خطاب إدارة ترامب إزاء إيران والشروط التي طرحها بومبيو في مضمونها إما عن مشروع لشن حرب كبرى في المنطقة، ليس من الواضح قط أن واشنطن وحلفاءها يطيقون حقاً دفع أثمانها الباهظة، وإما عن مقامرة سياسية كبرى على منزلة واشنطن الدولية والإقليمية ومصداقيتها بأن مجرد الإيحاء باستعداد الولايات المتحدة لشن مثل تلك الحرب ربما يكون كافياً لدفع إيران للتخلي عن كل شيء عملياً، لا على صعيد برنامجها النووي فحسب، بل عن سيادتها ومشروعها ونظامها ذاته، أي عن وجودها، ما يجعل القبول بالشروط الأمريكية «استسلاماً غير مشروط» لا يمكن أن تقبل به إيران في أي حال، ولا يمكن أن تقبل به الأجنحة والتيارات المتنافسة داخل النظام السياسي الإيراني، وهو ما يمثل نوعاً من التفكير الرغائبي الطفولي المنفصل عن الواقع من قبل صانعي القرار الأمريكي ربما يورط الولايات المتحدة (والمنطقة) بحرب كبرى فعلاً نتيجة الرعونة وسوء الحساب، كما حدث مراراً من قبل، سوى أن تصدير صورة الهوج الأمريكي المختل والمنفلت من عقاله للعالم هو بالضبط ما تراهن عليه الإدارة الأمريكية لابتزاز التنازلات من الخصوم والحلفاء على حدٍ سواء، فيما يتعلق بإيران، وكوريا الديمقراطية، وفيما يتعلق بالحروب التجارية مع الصين وأوروبا، وحتى فيما يتعلق بالعلاقة مع الدول العربية الخليجية.
استراتيجية الولايات المتحدة بعدم ترك أي منفذ لإيران، وطرح «شروط»، مثل «التفتيش غير المقيد لجميع المواقع في البلاد… والانسحاب من سورية… ووقف دعم حزب الله وحركة الجهاد الإسلامي… إلخ……»، هي محاولة للاستفزاز والإساءة، أكثر مما هي «شروط» واقعية، وتعني عملياً الرغبة في فتح معركة سوف تؤدي إلى توتير الأجواء وتصاعد الاحتكاك سواء وجِدت إرادة أمريكية حقيقية بفتح مثل تلك المعركة مباشرةً أم لا.
فهذه «شروط» تقدم أولاً غطاءً سياسياً للكيان الصهيوني لاستهداف سورية جوياً أو صاروخياً بذريعة استهداف التواجد الإيراني فيها، وهي ثانياً «شروط» تسعى لتطويق استحقاقات الانتخابات النيابية اللبنانية التي حقق حلفاء سورية نتائج طيبة فيها، كما أنها «شروط» تغطي أي عدوان صهيوني محتمل، وربما أمريكي، على لبنان، بذريعة «ملاحقة عملاء إيران ورديفهم حزب الله حول العالم لسحقهم»، كما قال بومبيو، وهي ثالثاً «شروط» تغطي العدوان السعودي على اليمن وتقدم الذريعة لتوسعة نطاق المشاركة الأمريكية والصهيونية فيه، وهي رابعاً «شروط» تتمم الحرب الاقتصادية على الصين وروسيا، وعلى أوروبا الغربية ذاتها، لأنها «شروط» تهدد بفرض عقوبات على الشركات والدول التي تتاجر مع إيران أو تستثمر فيها، ولعل هذا البعد يطرح تساؤلاً عما إذا كان المطلوب أمريكياً هو إخضاع هذه الدول أم إيران؟!، وهي خامساً «شروط» تشكل مقدمةً ضروريةً لـ «صفقة القرن»، أي لمشروع «الحل الصهيوني» للقضية الفلسطينية، باعتبارها «شروطاً» تؤدي موضوعياً لفرض الهيمنة الصهيونية على المنطقة لو تم تحقيقها، ولا سيما أنها أشبه ببرنامجٍ إقليمي للتحالف الصهيوني-الرجعي العربي منها لموقف إدارة ترامب من البرنامج النووي الإيراني (على سوء هذا الموقف ورعونته)، وهي سادساً «شروط» تضع مستقبل العراق السياسي على المشرحة، ومستقبل إيران ذاتها، بما لا يترك مجالاً للتكهن حول نيات واشنطن وحلفائها على هذا الصعيد، وهي سابعاً «شروط» ترسل رسائل أمريكية واضحة لكل الدول ذات النزعة المستقلة حول العالم، من كوريا الديمقراطية الشعبية إلى فنزويلا البوليفارية، بأن الولايات المتحدة تلوح بالعصا الغليظة، وتطالب الجميع بالخضوع، وهذا أمرٌ جيد في حد ذاته، لأنه يشل تذبذب كل القوى والتيارات الوسطية ويفرض عليها أن تختار ما بين الإذعان للإمبريالية أو مناهضتها.
الطريف أن مثل هذه اللهجة الأمريكية المتعالية أتت على خلفية الانتصارات المتلاحقة التي حققتها سورية وحلفاؤها، من ريف حمص الشمالي وريف حماة الجنوبي، وريف القلمون قبل ذلك، إلى تأمين دمشق وريفها بالكامل، بعد تحرير مخيم اليرموك والحجر الأسود والأحياء المحيطة وتطهيرها من الإرهاب تماماً، وهو ما شكل نقطة انعطاف مفصلية في مسار الحرب تؤذن باقتراب المعركة ضد الإرهاب التكفيري من نهايتها ومضي مشروع «إسقاط النظام» نهائياً إلى مزبلة التاريخ، كما أن تأمين العاصمة وجوارها حرّر المزيد من الموارد والقوى العسكرية لمعالجة مشكلة الأطراف الثلاثة الخارجة عن طوع الدولة في درعا وجوارها، وفي إدلب وجوارها، وفي شرق سورية وشمالها، وهي أطراف ما كان لأيٍ منها أن يستمر من دون الدعم الخارجي عبر الحدود السورية، من الأمريكان وتركيا والكيان الصهيوني وغرفة الموك في الأردن، وتالياً فإن إنجاز تأمين دمشق وريفها مثّل عاملاً مباشراً في دفع القوى الخارجية الداعمة للإرهاب لتصدّر الواجهة، ابتداءً بالإدارة الأمريكية، ولا يمكن فصل تصريحات بومبيو الاستفزازية، من ناحية التوقيت والمضمون، ولا فصل العدوان الثلاثي والاستهداف الصهيوني المتزايد في الآونة الأخيرة، عن النجاح العربي السوري والحليف في معركة تأمين العاصمة وريفها، وبما أن المواجهات في أي من هذه المناطق الحدودية الثلاث هي مع داعمي الإرهاب أنفسهم أكثر مما كانت في أي من المناطق السورية الداخلية، فإنها معارك تتخذ أبعاداً سياسية دولية وإقليمية بدرجة أكبر مما اتخذته المعارك في الغوطتين أو حلب ودير الزور وتدمر وغيرها من قبل.
فإذا كانت المعركة في شرق سورية وشمالها مع الولايات المتحدة محكومةً بدرجة ما بالتوازنات الدولية، وإذا كانت المعركة في إدلب مع تركيا محكومةً بدرجة ما بالتوازنات الإقليمية (مع روسيا من جهة، وإيران من جهة أخرى)، وتالياً فإنهما مؤجلتان مؤقتاً بشكلهما المباشر، من دون استبعاد أي شكل من أشكال المقاومة (المشروعة بالضرورة) ضد الاحتلالين الأمريكي والتركي في سورية، فإن معركة درعا والقنيطرة قصة أخرى، ولا سيما أن القوى الخارجية الداعمة للإرهاب هناك لا تستطيع، لعدة أسباب، الدخول إلى درعا والقنيطرة كقوات احتلال بري، بالرغم من الغطاء الجوي الذي يحاول أن يؤمنه الكيان الصهيوني للعصابات الإرهابية هناك، وأن تأمين الغوطة الشرقية فتح الباب على مصراعيه إلى درعا، مغلِقاً باباً آخر من أبواب تهديد العاصمة، وأن محاولات فرض «الحزام الأمني» و«المنطقة الآمنة» في محافظتي درعا والقنيطرة فشلت فشلاً ذريعاً.
لهذا كله رفع الكيان الصهيوني عقيرته بعد أن أصيب بالذعر، وصار إبعاد حزب الله وإيران عن خطوط التماس مع العدو الصهيوني في الجنوب السوري «قضية إقليمية ودولية كبرى»، هي في الواقع قضية «أمن الكيان الصهيوني» ليس إلا… وليس هناك تفسير آخر لها إلا الحفاظ على أمن العدو الصهيوني، إذا نحيّنا جانباً المحاولات المسعورة للقوى الداعمة للإرهاب لإعاقة تقدم الجيش العربي السوري في كل أنحاء سورية، ولهذا كله تطرح «مشكلة إيران وحزب الله» بهذا الزخم في هذه المرحلة، وكل الجهود المبذولة مع روسيا من قِبَل الكيان الصهيوني وبعض الأنظمة العربية لإبقاء إيران وحزب الله بعيداً عن درعا والقنيطرة هي جزءٌ لا يتجزأ من هذا السياق، فأردوغان يزايد ويتاجر بقضية القدس وغزة وغيرها، لكن نواب حزبه أسقطوا مشروع قرار للمعارضة في البرلمان التركي لقطع كل العلاقات وإلغاء كل الاتفاقيات مع العدو الصهيوني، أما من يخاف منه العدو الصهيوني فليس أردوغان… وثمة ثلاث حقائق لا بد من التأكيد عليها في هذه اللحظة، أولها أن إيران يستحيل أن تستسلم لشروط إدارة ترامب، وثانيها أن حزب الله ومحور المقاومة ليس بصدد التخلي عن مشروعه المقاوِم، وثالثها أن درعا والقنيطرة، كغيرها، ستعود، عاجلاً أم آجلاً، إلى حضن الدولة العربية السورية.
* كاتب من الأردن