تلعبُ السياسة الأميركية آخر أوراقها في الشرق الأوسط على قاعدتين اثنتين: التهدئة مع الصين وشبه الجزيرة الكورية لتشتيت انتباه بكين من المشرق العربي وإرجاء «النزال الحتمي» معها إلى مراحل لاحقة، وتّرضي القاعدة الثابتة روسيا بنفوذ كبير لها في سورية.. مقابل تخلّيها عن التحالف مع إيران، ما يدّل على أنّ الاستراتيجية الأميركية تعتبر أنّ الجمهورية الإسلامية هي عدوها الفعلي حالياً، ويجب عليها إسقاطها قبل تأجّج الصراع العميق مع الطرفين الروسي ـ الصيني.
بولتون.. مستشار الرئيس الأميركي ترامب هو ند في موسكو ليس من أجل متابعة «مونديال» كرة القدم الدائر فيها، بل للتوصل إلى آليات تضع التفاصيل الأولى للتفاهمات قيد البحث. والتي تتطلب اجتماعات بين متخصصّين من البلدين على دراية عميقة بالتطورات المتسارعة.. المهم هنا، أنّ يجري تحديد أُطر الاتفاق قبل القمة التاريخية بين ترامب وبوتين المنتظر عقدها في بلد ثالث. قد تتبادر إلى الأذهان تساؤلات عن أسباب التراخي الأميركي المؤقت مع روسيا والصين مقابل التصعيد مع إيران إلى حدود الاستهداف الحربي.
ولكسر إيران أهمية أميركية قصوى، يعتبر البيت الأبيض أنها ممكنة حالياً، بينما وقف الاندفاعة الروسية ـ الصينية، حالياً مستحيلة، لأن خطوط البلدين مع طهران مفتوحة إلى حدود التنسيق والدليل عليه هو التعاون بين موسكو وطهران في الميدان السوري الذي ألحق هزيمة شبه كاملة بالنفوذ الأميركي الذي كان يزداد عظمة رؤيتها على وقع توسّع انتشار القاعدة وداعش والنصرة.
إلى أنّ انكمش هذا النفوذ بالتحالف العميق بين الدولة السورية وروسيا وإيران وحزب الله، كما أنّ تركيز الهجوم الأميركي على روسيا والصين حالياً، غير عقلاني، ويؤدي أولاً إلى تعميق التحالف بينهما أكثر من المعمول به حالياً. ويدفعهما إلى بناء تحالفات استراتيجية مع إيران ليس موجوداً منها حتى الآن إلا «الصفقات الحصرية المرتبطة بالأزمات».
هذا يكشف عن عقل أميركي باشر ببناء سياسات تقوم على تقسيم «الأعداء» ومنعهم من صناعة تضامن استراتيجي قويّ. وهذا واضح، في أسلوب التفاوض مع الصين حول كوريا بمعزل من روسيا، ومحاولات التفاهم مع روسيا حول الكثير من القضايا المشتركة، وأهمها سورية.. إنّما على أساس عزل الطرف الإيراني على الرغم من أهميته في ميادين سورية على المستويات العسكرية والاقتصادية.. والسياسات الاستراتيجية.
إنّ الاستهداف الأميركي لإيران مرتبط بالسيطرة الأميركية التاريخية على العالم الإسلامي وقلبه: المشرق العربي. فطهران التي انتصبت جمهوريتها الإسلامية على قاعدة العداء للنفوذ الأميركي والإسرائيلي تعرّضت منذ 1980 لمحاولات إسقاطها بالقوة العسكرية حرب صدام حسين والغارات الأميركية، والحصار والمقاطعة وحجز أموالها في الخارج.. ولا تزال حتى الآن تتعرّض لعقوبات أميركية غير مسبوقة، إلى جانب انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي معها ودعوتها الدول التابعة لها في أوروبا والعالم العربي وأستراليا وجنوب شرق آسيا إلى وقف التعاملات الاقتصادية مع إيران والامتناع عن شراء الغاز منها.. إنها حرب أميركية كاملة لها وقع قنبلة نووية، لمِا تتسبَّبُ به من خسائر تبتغي إسقاط النظام السياسي بطريقة تجويع الإيرانيين ودفعهم إلى تفجير دولتهم.
الأسباب هنا واضحة، وأولها أنّ إيران بلدٌ مشرقي ـ شرق أوسطي. وهذا عامل يجعلها مزعجة للسياسة الأميركية بشكل دائم، ولها امتدادات عرقية ومذهبية ودينية في مدى يربط بين البحر المتوسط وآسيا الوسطى. وما هو غير عادي أميركياً هو نجاح طهران «المحاصرة والمعاقبة والمطوّقة» في اختراق النفوذ الأميركي في العالم الإسلامي في لبنان إلى افغانستان، وبناء تحالفات لها عميقة جداً، أدت إلى ترنح النفوذ الأميركي في أكثر من بلد، ومنع إسقاط القضية الفلسطينية.. ويكاد تأثيرها أنّ يجتاز حدود العراق نحو قلب النفوذ الأميركي أي الخليج الذي يرشح نفطاً وغازاً وذهباً. وهذا ما أصاب السياسة الأميركية «بفوبيا إيران» التي تحوّلت «فوبيا شيعية»، وذلك للمزيد من الاستفادة من مخاطرها على مستوى تفجير العلاقة بين جناحَيْ الإسلام: السني والشيعي.
إيران إذاً تحركت جيو ـ استراتيجياً في قلب منجم ذهب يستثمره الأميركيون على مستويين «موارد الطاقة والاستهلاك.. أليست واشنطن مَن يحمي أنظمة عربية إسلامية تحمل فكراً من القرون الوسطى تمنع عن الناس العلم والتطور؟ أهي من المصادفات أنّ كل البلدان العربية الواقعة في قلب النفوذ الأميركي لا تنتج شيئاً، وتستورد كامل ما تستهلك. فتقبض باليمنى ثمن النفط، تأخذ حصتها المحلية، وتُعيد الباقي للغرب المتعدّد..»؟
هذا ما يجعل من إيران وسواساً أميركياً آنياً يهدد مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية في قلب العالم الإسلامي. أليس الخليج على مرمى حجر من سواحلها.. وتحالفاتها تنتشر من أعالي اليمن حتى البحر المتوسط؟
تقدم هذه الأهميات الإيرانية تفسيراً شافياً لمركزة العدوانية الأميركية حول طهران، وإرجاء الصراع مع الصين وروسيا إلى مواعيد أفضل للقوة الأميركية.
فإذا كانت الصين وروسيا، مهتمتين بالأبعاد الاقتصادية في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي.. وهذا غير ممكن من دون بناء أساسات سياسية مواكبة، فإن الهدف الإيراني يريد بناء تموضعات استراتيجية في العالم الإسلامي هدفها تقليص النفوذ الأميركي إلى أدنى حدّ ممكن، مع إمكانية بناء تحالفات إسلامية تؤسس للمستقبل. هذا من دون تجاهل مسألة تحرير فلسطين المحتلة التي تعتبر من أولويات الاستراتيجية الإيرانية وذلك لأسباب دينية المسجد الأقصى وجيو ـ استراتيجية العالم الإسلامي .
لذلك وضع الأميركيون إيران في ملف «الحالات المستعجلة». ويعرضونها لحالة حرب فعلية لا تنفك تتسع وتتسببُ بتدهور اقتصادي مريع لبلد يمتلك غازاً هائلاً ونفطاً وأراضي زراعية ومياهاً وكميات من كامل أنواع المواد الأولية.. أي لا تنقصه إلا هدنة قصيرة يتحوّل فيها قوة تجمع بين الإقليمي والدولي.
بهذا الوضع، يتضح أنّ واشنطن تعرض على الروس نفوذاً في بلد، يمتلكون فيه أصلاً نفوذاً واسعاً. ومن دون جميلهم. ويريدون بالمقابل كانتوناً كردياً واسعاً شرق الفرات، مع وضع يد على العراق وإعادة لبنان إلى النفوذ السعودي، فتصبح الصورة كالآتي: حصار على سورية من جهة فلسطين المحتلة والأردن وقطع خطوطها الحدودية مع العراق وعداء متصاعد مع تركيا ولبنان. فيجري حبس النفوذ الروسي داخل سورية التي تفقد بالتالي أهمياتها في جوارها المباشر وعالمها العربي.. فما قيمة نفوذ روسي لا يستطيع الوثب من الميدان السوري إلى العالم العربي؟ ألا يشكل هذا السيناريو الأميركي فرصة مثالية لمنع السلع الصينية من اختراق الأسواق العربية؟
يشكّل هذا الجانب، ما تريده واشنطن وتسعى إليه، لكن الموافقة الروسية عليه، تزداد صعوبة.. فموسكو على بيّنة عميقة بالأهداف الأميركية، وتعرف أنّ تحالفها مع إيران، استراتيجي الأبعاد، قد يُصاب حيناً باهتزازات تكتيكية على مستوى تحديد الأولويات. لكنه غير قابل للانهيار، لأسباب استراتيجية أيضاً. فمع تشديد المراقبة على خط بحر آزوف ـ الأسود ومرمرة – إيجه – المتوسط من قبل «الناتو»، يصبح خط روسيا ـ بحر قزوين إيران العراق ـ سورية.. بديلاً نموذجياً يؤدي إلى تصديع كامل للنفوذ الأميركي وفتح الدرب لطريق الحرير الصينية ـ الروسية.
ما هي خاتمة التفاهم الروسي ـ الأميركي؟ ليست له خاتمة بكل تأكيد، لأن العالم يتجه بسرعة إلى نظام متعدد القطب على حساب انهيار الأحادية الأميركية.. وهذا لا يتحقق إلا بتحالف استراتيجي بين روسيا والصين، وإيران. وهو الوحيد الذي يمتلك مغناطيس فكفكة القوة الأميركية المتسلطة على العالم بأنياب سامة.
البناء