لم يكن الغرب بدوله ومراكز دراساته وأدواته الفاعلة في العالم، يرى للإسلام المحمدي الأصيل فرصة في الوجود الفاعل، أو احتمالا لقيام منظومة حكمية مستمدّة منه، بإمكانها أن تشق طريقها بيسر ونجاح وسط نظريات العالم الوضعيّة، لتنافس القوى الغربية الكبرى كأمريكا وبريطانيا وفرنسا في إفشال كل محاولة للنهوض به، مهما كانت ضعيفة في حظوظها.
والغرب الذي خطط منذ الحروب الصليبية، للقضاء على أية بارقة أمل، تحدو الشعوب الإسلامية في استنهاض مكوناتها لإقامة أحكام دينها، عندما اتيحت له فرصة احتلال بلداننا العربية والإسلامية، لم تدّخر بريطانيا وفرنسا جهدا في القيام بذلك، فاستغلتنا تلك القوى أبشع استغلال، ناشرة ثقافتها المسمومة، المتحررة من القيم والضوابط الدينية، ثم أوجدت من بيننا من يدعو إلى تلك الثقافة، بعدما رسّخت فيه مبادئها، حتى أصبحت لديه المثلى، كحل للنهوض بشعوبنا، ثم أُدرِجَتْ تلك الثقافة في مناهج تعليمية، يكاد ينمحي منها الإسلام كدين يحمل الحلول الناجعة، ويقوّم انحرافات المجتمعات، إسلاما موروثا لا يرى قِيَمَهُ قادرة على القيام بشؤون الناس، فبقي محصورا مضيَّقا عليه فيما عدا الإفتاء للسلطان، وتأييده في سياسته العامة والخاصّة، وإن خالفت أحكام الدين.
لكن إرادة الله سبحانه في حفظ دينه، جعلت أعمال أعداء الاسلام تبوء بالخسران ، فكلما أوقدوا نار فتنة أطفأها الله، وكان الوعد الالهي صريحا في القرآن الكريم، قد تضمّن آليتين لحفظ دينه من عبث العابثين وتحريف الضالين، هما الإمامة الإلهية التي استلمت أمانة حفظ الدين وتبليغه للناس، والعمل على قاعدة بناء الأمّة الصالحة، في زمن تتهيّأ فيها فرصتها، والعلماء الرّبانيون العدول، الذين لهم دور التصدّي لإنحرافات الزائغين عن صراط أهل ولاية الله تعالى، باعة الدين بالدنيا.
ولئن لم يخلو زمان من هؤلاء الصالحين، فإنّ جهودهم الجبّارة أثمرت أخيرا ظهور عالم فقيه مجتهد، من سلالة أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله، في قوم سلمان المحمّدي، يدعو إلى الحق واتباع سبيل الأئمة الهداة الطاهرين عليهم السلام، قد جعل أولويته توعية شعبه، وتنبيهه من خطر السكوت على الظلم، وتغلغل الإستكبار والصهيونية في بلاده، بعدما سمح لهم الشّاه بالهيمنة على سياسة حكمه، وتطويعها لتكون في خدمة مصالح الغرب وإسرائيل.
لقد كان الامام الخميني رضوان الله عليه ذلك الصوت الصّادح بكلمات الحقّ، التي تناهت إلى آذان شعبه فصدّقها، والتفّ حوله يتابعه في جميع خطبه وبياناته السياسية، واعتبرته طلائعه الثورية، قائدا روحيا لثورة قوم سلمان المحمّدي، التي بدأت شعلتها تتوقّد منذ سنة 1963، وانخرطت في مسيرته الجهادية، واستمر أداؤها وتفاعلها في الشعب الإيراني، الذي قدّم في سبيل إنجاحها، مئات الآلاف من الشهداء الأبرار، إلى تمام انتصارها بتاريخ 11/2/1979.
الثورة الإسلامية الإيرانية فريدة من حيث أداؤها وقيادتها العلمائية، تميّزت بأنها بشارة وحي إلهيّ تحققت في هذا العصر، وأكرمنا الله بمعاصرتها ومناصرتها على بُعْدِ المسافة، والذي جعلنا وكثير من المؤمنين يرتبطون معنويّا بها ارتباطا وثيقا، أنها جاءت إشاراتها في كتاب الله العزيز، هذا القرآن الكريم الذي احتضن في مكنون غيبه إخبارا متكرّرا، زاده النبي صلى الله عليه وآله وسلم تفسيرا وتوضيحا، حتى لا يلتبس أمره على أحد، موقنا بما جاء في كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم المفسّرة له.
آيات بشارة الوعد الإلهي:
أخبرنا الله سبحانه ضمن آيات غيبه العظيمة، أنّ قوما آخرين، ليسوا مثل أغلب الصحابة، يحبهم الله ويحبونه، أذلّة على المؤمنين أعزة على الكافرين، سوف يأتون لإعلاء شأن دينه الخاتم، وهذه الآيات هي: قوله تعالى: (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم.) (1)
(وآخرين منهم لمّا يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم.) (2)
(..فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم.) (3)
أجمع المفسرون تقريبا أن هذه الآيات نزلت بحق قوم سلمان الفارسي، وما سلمان إلا نموذجا من رائعا منهم أكرمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد إهانة تعرّض لها، بأن نسبه إليه فقال: ( سلمان منا أهل البيت)(4)
الأحاديث المفسّرة لآيات البشارة
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا جلوسا عند النبي (ص)فأنزلت عليه سورة الجمعة وآخرين منهم لما يلحقوا بهم قال قلت: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثا، وفينا سلمان الفارسي، وضع رسول الله (ص) يده على سلمان، ثم قال: لو كان الإيمان عند الثريا، لناله رجال من هؤلاء. (5)
عن أبي هريرة قال: تلا رسول الله (ص) يوما هذه الآية ( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم)قالوا: ومن يستبدل بنا؟ قال: فضرب رسول الله (ص) على منكب سلمان ثم قال: هذا وقومه هذا وقومه. (6)
ومع كل هذه الدلالات والتنبيهات خاض كثير من المسلمين في وهمهم فمنهم من كفّرها بدعاية باطلة، ومنهم من عاداها بسعاية خاطئة، ومنهم من بقي منحازا عنها، لا يعرف لنفسه وجهة، تارة نائيا عنها بنفسه، وطورا متحاملا عليها بشبهة ألقاها الإعلام المعادي لإيران، ومع كل موجات إعلام العرب الواقع تحت تأثير الإعلام الغربي الصهيوني وما حملته من بهتان، واصلت إيران مسيرتها العلمية والتنموية، فارضة نفسها في عالم شديد التنافس بين دوله، ومحقّقة نتائج باهرة في جميع مجالات الحياة، العلمية والصّناعية والإقتصادية والثقافية والسياسية، أفرزت مجتمعا محصّنا من الدّاخل، من كل وليجة سوء مرّرها الغرب، من أجل زعزعة استقراره، وتفكيك مكونه المتعدد الأعراق والعقائد.
وها قد مرّت 43 سنة على انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية، بقيادة الإمام الخميني رضوان الله عليه، وما حققه الشعب الإيراني المسلم، المؤمن بقضايا أمّته، أكثر من أن يُحصىي مقال ذلك كلّه، لكني أذكّر فقط أن الحرب التي بدأت رحاها تدور، من أجل اسقاط النظام الإسلامي في هذا البلد الصامد، والمستبسل في الدفاع عن حقوقه وحظوظه، بدأ من عدوان صدّام البعثي، إلى آخر العقوبات الأمريكية الظالمة، كانت بحدّ ذاتها دافعا قويّا لصمود قوم سلمان المحمّدي، وعاملا حقيقيا لبذل الجهود المتواصلة، من أجل تلبية حاجيات الشعب والبلاد، وفرصة سبّبتها حماقة أعداء إيران، لتزداد تحصينا وتمكينا، باعتمادها الكامل والتّام على أبنائها وخبرات كفاءاتها، التي أثبتت وطنية نادرة الوجود في شعوب أخرى.
إيران اليوم ليست إيران في بداية عصرها الذهبي، فما كان لا فتا بالأمس مهيّئا للتطور أكثر، صار اليوم يمثّل حقيقة التفوّق الإيراني، الذي أصبح رقما صعب التجاوز على أعداء إيران، ولو اجتمعوا معا، وأعدّوا عدّتهم على مواجهتها، استكبارا وصهيونية وعملاء، ولو فكروا لأعياهم التفكير- وقد اعايهم حقيقة لكنهم يخفون ذلك – ودفعهم مجددا إلى حيرة، ليس بمقدورهم الخروج منها سوى بالمجازفة، ولو جازفوا فسيلقون ما لا يتوقعونه في حساباتهم القاصرة، بالأمس كانت إيران بفضل الله منيعة وعصيّة على الأعداء ومؤامراتهم الخبيثة، واليوم هي أعصى من ذي قبل، و(ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.) (7)
المراجع
1 – سورة محمد الآية 38
2 – سورة الجمعة الآية 3
3 – سورة المائدة الآية 54
4 – مستدرك الحاكم النيسابوري ج3ص598 على شرط الشيخين مسلم والبخاري ولكنهما لم يخرجاه
5 – جامع أحاديث البخاري كتاب تفسير القرآن باب تفسير سورة الجمعة ج 6 ص 151 ح4897/مسلم النيسابوري كتاب فضائل الصحابة باب فضل فارس ج7ص19 ح2546/ سنن الترمذي ابواب تفسير القرآن ج5ص337ح3310/
6 – سنن الترمذي ابواب تفسير القرآن باب ومن سورة محمد ج5ص303ح3260
7 – سورة الحديد الآية 21
منطقة المرفقات