“الردة” التي وصف بها المؤرخون أحداثا في فجر الاسلام، وان كانت غير دقيقة في نسبتها، إلا أنّ مضمونها القراني يتّفق كما هو معلوم مع ما عرفه العرب لغة وهو: الرجوع في الطريق، والتحول عن الشيء إلى غيره، والمرتد والمنقلب على مبدأ لا زال يؤمن به في قرارة نفسه، ان لم يكن قد اخفى ردته عنه تماما، من موبقات أعمال صاحبه السيئة، قد لا تنفع توبته عمّا اقترفه بحقّ غيره.
والردة عن الوطن مبادئ واستحقاقات، لا تقل خطورة واجراما عن الردة عن الدين، ومن هان عليه وطنه، لا فرق ان يهون عليه دينه، فكلاهما بقداسته ومكانته، يشكلان الرصيد القيّم للإنسان الملتزم بمبادئه العظيمة.
في بداية الثمانينات من القرن الماضي، كان شباب الحركة الاسلامية بتونس ( النهضة حاليا)، يحيون ايام الارض الفلسطينية ونكبة احتلالها في الجامعات، فارتبطت فلسطين ارضا وشعبا وقضية، بالمشروع الاسلامي للحركة، وما كنا نعتقد انه سياتي يوم تنقلب فيه قيادات الحركة على ذلك الوفاء، فتقف في وجه مشروع تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني، لتحول دون وصوله الى مداولات البرلمان، ومناقشة بنوده والتصويت عليه بالتزكية، فذلك أقلّ الواجب تجاه قضية ناضلت الحركة عليها ولم تتخلى عنها، فما الذي تغير الآن حتى تنقلب عليها؟
تجميد مشروع القرار وابقائه في درج رئاسة البرلمان، يعتبر ردّة على مبدأ مقدس، لا يجب اهماله أو التغافل عنه بأي حال، ولا يمكن أن يكون مصير مشروع قانون، يجسد مطلبا شعبيا ملحّا، في مضمونه كرامة له، وفي تنفيذه وفاء للقضية الفلسطينية، ومساندة قيّمة للشعب الفلسطيني، رفضه رئيس الحركة الشيخ راشد الغنوشي، متعللا بأنه سيلحق أضرارا بالحركة داخليا وخارجيا، واتفق معهاعضاء اخرون بالحركة، وجاء تصريح علي لعريض معللا: (إن قانون تجريم التطبيع، يمكن أن يثير مشكلات لتونس مع الدول العربية والغربية، وحتى مع مؤسّسات أمميّة) بل ان الحركة باعتبارها طرفا في تشكيل الحكومة، اسهمت بشكل واضح في عمليات التطبيع، بغضّ الطرف على حركات التنقل، تحت عناوين مختلفة الى فلسطين المحتلة، والإصرار على تعيين روني الطرابلسي – صاحب الجنسيات المزدوجة، (تونسية/ فرنسية/اسرائيلية) ومنظم حج الصهاينة الى كنيس الغربية بجربة- وزيرا للسياحة في حكومة يوسف الشاهد، ولولا اسقاط حكومة الحبيب الجملي في البرلمان، لاستمر على راس الوزارة فترة اخرى.
مواقف تدفعني الى ترجيح فرضية عودة مشروطة، لقيادات حركة النهضة وعناصرها اللاجئة بالمهجر الى تونس، بعد اجبار الرئيس المخلوع على مغادرة البلاد بالقوة، فيما عرف بمفتتح ثورة الربيع العربي، ترتيبات تبدو منطقية، في ظل اشراف الدول الكبرى، على حبك مسرحية الثورة، حتى لا تنطلي على الشعب حكاية، انه قام بثورة لا راس لها وأساس، كالفطر الذي ينمو بلا حرث ولا بذر، وهذا من أغرب وأعجب ما افتتح به هذا القرن، وابتلي به شعبنا فصدّقه من صدّق، ونفى صفته من نفى، وما كان ذلك الا مقدّمة للبدء بتنفيذ مخطط الشرق الأوسط الجديد.
ولأنّها ثورة مفتعلة، فقد اخذت سريعا، الى مذبح تصفية ما سيترتب عنها من استحقاقات ونتائج، فكان مشروع تحصين الثورة بداية منعطف الثورة العقيم، وتعدد حملها الكاذب، فسقط التحصين بتصويت الحركة ضدّه، بحثٍّ رئيس الحركة كتلته في البرلمان على معارضة ذلك الفصل فوقع اجهاضه.
سقط إذا الفصل 167 الذي نصّ على أنه: (لا يمكن أن يترشح لانتخابات مجلس الشعب كل من تحمل مسؤولية صلب الحكومة في عهد الرئيس بن علي باستثناء من لم ينتم من أعضائها إلى التجمع الدستوري المنحل.كما لا يمكن الترشح لكل من تحمل مسؤولية في هياكل التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل وفق مقتضيات الأمر عدد 1089 المؤرخ في 03 أغسطس 2010) الذي تمّ التخلي عنه من قبل كتلة حركة النهضة، بعد عدم حصوله على الأصوات الكافية، بحيث لم يحصل سوى على 108 أصوات، بينما كان مفترضا أن يحصل على 109 أصوات ليمر، وعارضه 23 نائبا وامتنع عن التصويت 43 نائبا من بين 217 وهو عدد نواب المجلس الوطني التأسيسي الذين لم يحضر منهم يوم التصويت سوى 164 نائبا.(ماي 2014)
هذا القانون الذي اسقطته النهضة والهدف منه قطع الطريق على أي محاولة للردّة عن الثورة وتحصين هياكلها السلطوية من برلمان وأدوات حكم من عودة رموز الفساد القديم الى ممارسة السياسة من جديد وامكانية عودة القبح والفساد من جديد الى الساحة السياسية للبلاد، لكن اسقاطه مكن من عودة أيتام النظام المنحلّ، الى العمل السياسي وكأنّ شيئا لم يكن، وعاد أدوات العمالة لتفسد على البلاد فرحتها بالثورة، وتنغّص عليها عيشها .
ثم بواسطتها مرّ قانون المصالحة لفائدة السراق والدساترة واعادت التجمعيين وحكمت معهم، بعد أن كان مشروعه أثار احتجاجات كبيرة بتونس منذ أن تمّ إرساله للبرلمان عام 2015 من ممثلي المنظمات الشبابية، وأحزاب سياسية ومنظمات المجتمع المدني التي عبّرت عن رفضه، رأت فيه انقلابا على الثورة وتبييضا للفساد، وقد تمّت المصادقة عليه ب 117 صوت في 13 /9/2017.
فإذا بساحة الحكم في تونس تتحول الى فسيفساء من التناقضات وخليط من الفرقاء والنفعيين ومن الطابور القديم ومن مزدوجي الجنسية ومن له علاقات تحوم حولها الشبهات والشكوك بالعمالة بحيث نمسي ونصبح على معارك نفوذ وتسجيل نقاط على فرقاء السلطة، يدعونا الى الحيرة والتساؤل الى أين سينتهي بنا المطاف بعد كل الذي حصل؟
ويتواصل مسلسل تفاجئ أحرار هذا الشعب، من شطحات كتلة حركة النهضة بإسقاط ، مشروع اللائحة التي تقدمت بها كتلة الدستوري الحر، والتي تعلقت بإعلان رفض البرلمان للتدخل العسكري الخارجي في الشأن الداخلي للشقيقة ليبيا، ومناهضته لتشكيل قاعدة لوجستية داخل التراب التونسي، قصد تسهيل تنفيذ ذلك التدخل، وقد صوّت لفائدة مشروع اللائحة 94 نائبا، فيما اعترض عليه 68 نائبا، واحتفظ 7 نواب بأصواتهم، يبدو أن امتناع كتلة حركة النهضة عن التصويت، مردّه أنها مع التدخّل التركي في ليبيا، ما يتعارض مع المنحى الحيادي، الذي من المفترض أن تكون عليه تونس، نأيا بها عن التورط.
ثم اننا تفاءلنا خيرا بمشورع قانون يطالب فرنسا بالاعتذار لتونس عن جرائمها التي ارتكبتها خلال فترة احتلالها للبلاد، حيث أنه لا احد يشك في ارتكاب فرنسا زمن احتلالها لتونس جرئم متنوعة ومتفاوتة الخطورة من تمييز عنصري الى انتهاكات سجن واغتصاب وقتل وصل في عدد من وقائعه الى صفة جرائم حرب لا تسفط بالتقادم، هذا زيادة على اعمال استغلال ونهب موارد البلاد وسرقة اثارها وكنوزها.
صفحات تاريخ سوداء طواها نظام منحته فرنسا بتوافق معه، كشف بعد ذلك عن علاقة وطيدة وحميمة معها بدأت قبل الاستقلال الصوري، الذي لا تزال اثاره وتداعياته الى اليوم قائمة، من خلال اطلاق يد السفير الفرنسي في حركاته المثيرة للريبة، وعلاقاته الداخلية بشخصيات تونسية، محسوبة على الجبهة الفرنكفونية، الناشطة من اجل استدامة الولاء لفرنسا، ليت ابو يعرب المرزوقي يفهم هنا تباين نوايا فرنسا الاستعمارية السيئة مع نوايا ايران الاسلامية الحسنة، ولا يخفى ما ارتكبته فرنسا من جرائم بحق تونس خلال فترة استعمارها وما بعده، وباختصار شديد فرنسا لا تزال متحكمة بأزلامها فينا، وفي اعتقاد الكثيرين أننا تخلّصنا من هيمنتها، ولكن هيهات ان ينتزع اخطبوطها بغير القطع، أما إيران التي يتهافت عليها الفيلسوف ونحوه تهافت الفراش على المصباح ليحرقه، فقد عمي عن نسبتها زعيمة ثورات العالم القديم والوسيط والمعاصر، جاءت تتويجا لحركة انبياء الله ورسله عليهم السلام، في اقامة نظام عادل، ينقذ الانسان من ظلم اخيه، فأي علاقة بين نظام فرنسي لا يزال ينظر الينا بعين المغنم، وبين نظام اسلامي نصب همّه على معاداة ومحاربة الاستكبار والصهيونية، وجنّد نفسه لقضايا التحرر في العالم؟
في ساعة مبكّرة من الليلة الفاصلة بين الثلاثاء 9 جوان و الإربعاء 10 جوان 2020 اختتمت جلسة البرلمان المخصّصة لمناقشة لائحة إئتلاف الكرامة حول مطالبة الدولة الفرنسيّة بالاعتذار للشعب التونسي عن جرائمها في حقبة الاستعمار المباشر وبعدها، وجاء فيها:
مطالبة الدولة الفرنسية بالإعتذار الرسمي والعلني، عن كل ما اقترفته في حق الدولة التونسية، وفي حق شعبنا زمن الاحتلال المباشر، وبعده من جرائم قتل واغتيال وتعذيب واغتصاب ونفي وتهجير قسري ونهب للثروات الطبيعية والأملاك الخاصة ودعم صريح للاستبداد والديكتاتورية، وتطالبها بأن تبادر بتعويض الدولة التونسية، وكل المتضررين من الجرائم المذكورة، وكل الذين انجر لهم الحق قانونيا، تعويضا عادلا مجزيا، طبق ما تقتضيه القوانين والأعراف الدولية، بما من شأنه أن يساهم في مسح الآلام والأحزان والمآسي، التي تسبب فيها الاحتلال البغيض، كما طالبت اللائحة بأن تضع فرنسا على ذمة الدولة التونسية والباحثين وعموم الناس، كامل الأرشيف الرسمي المتعلق بتلك الحقبة السوداء، حتى تعي الأجيال الجديدة مساوئ الاستعمار، و لا تتكرر مآسيه وفق ما ورد في اللائحة.
وعوض أن يصوّت نواب الشعب بالإجماع على هذا المطلب الاستحقاقي الثوري، لم تحظى اللائحة بالقبول بعد تصويت 77 نائباً لفائدتها، مقابل احتفاظ 46 بأصواتهم، ورفض 05 نواب لها، ما أدّى الى سقوط مشروع اللائحة.
اللافت هنا هروب أغلب نواب حركة النهضة من قاعة المداولات، تنصّلا من التصويت، وهذا لا يبرئ ساحتهم، بقدر ما يزيدهم اثما وتورّطا بحق استحقاق وطني، لا يتردد في أدائه وطنيّ، مهما بلغت به خسّته ووضاعته، وليت شعري أين موقف ابو يعرب المرزوقي من هذا؟ أم ان معزفه الذي ما فتئ يشنّف أسماعنا بألحانه لا يعزف هذه المقامات؟
لماذا الخوف والتوجس من اللائحة الوطنية المقدَّمة، والفرنسيون انفسهم لا يرون في ذلك حرجا، فقد بادر الرئيس الفرنسي بالاعتذار للجزائريين على اعمال التعذيب والقمع الوحشي الذي مارسته بلاده ضد الوطنيين الجزائريين، جاء ليحفز الطرف المقابل على فتح الملف الاسود من حقبة الاستعمار الفرنسي لشمال افريقيا بل وافريقيا الفرنكوفونية.
هل يعقل أن تناضل إمرأة فرنسية من أجل اظهار حق زوجها المناضل الشيوعي (موريس أودان) الذي اختفى سنة 1957 عن عمر 25 عاما وتتابع ملفّه61 سنة عبر قصر الايليزيه، ورؤسائه الذين تداولوا عليه، الى أن جاء الرئيس الحالي ايمانويل ماكرون، فاعترف باستخدام بلاده نظاماً للتعذيب خلال الثورة الجزائرية (1954-1962)، كان من ضحاياه جزائريون وفرنسيون، تصريح يُضاف إلى ما اعترافه السابق، الذي قال فيه إنّ استعمار فرنسا للجزائر يعتبر جريمة ضد الإنسانية، لقد سبقتنا الحكومة الجزائرية الاكثر تضررا من الحقبة الاستعمارية الفرنسية، في هذا المجال الحقوقي، ولن تتخلى عنه بغير رضوخ فرنسا لمطالبها، وهكذا تكون الرجال.
سلسلة موبقات السياسة في بلادنا، أوصلتنا الى هذه الحالة من اللاوطنية، المكللة بجبن فقد الكرامة، وهوان الشخصية التونسية الاصيلة، التي تجوع ولا تأكل على حساب هوانها وفقد كرامتها، فأين ثورتنا ومسارها واستحقاقاتها، وسط غابة من الأدعياء والمنافقين.
قريبا سينتفض الشعب على ساحة التهريج، وينهي حقبة عشر سنوات عجاف، حيث لا بد من اجراء تعديل على نظام الحكم ليصبح رئاسيا معدّلا، وإلا يا خيبة المسعى.