في الخامس من تشرين الثاني الماضي، دخلت الدفعة الثانية من العقوبات على إيران حيّز التنفيذ، واستهدفت بشكل خاص، قطاعين استراتيجيين هما قطاع الطاقة وقطاع البنوك.
الولايات المتحدة راهنت ولا تزال على «تصفير» صادرات النفط الإيرانية، وتقطيع صلات إيران بالنظام المصرفي العالمي «سويفت»، إلا أن الكثير من الخبراء الاقتصاديين والسياسيين يشكّون بقدرة واشنطن على تحقيق هذه الأهداف، بل ثمة من يرجح عودتها للتفاوض بشروط أدنى من شروط «بومبيو» الاثني عشر الشهيرة.
وهنا لابد من لفت الأنظار إلى بعض الأمور المهمة في هذا السياق.
مع صدور أول دفعة إعفاءات عن واشنطن، وشملت ثماني دول منها (تركيا- كوريا الجنوبية- اليابان- الهند) فقد تأكد استحالة تحقيق هدف «صفر صادرات» ذلك أن الدول المذكورة تستهلك نصف صادرات إيران من النفط الخام.
ثم إن موضوع التعويض عن النفط الإيراني صعبٌ وغير متاح لأي من الدول المنتجة والمصدّرة للنفط، ومن المنتظر، ارتفاع أسعار النفط الخام بشكل لافت، الأمر الذي يعني أن إيران ستعوّض بالأسعار المرتفعة أي انخفاضات في النفط المصدَّر بسبب الحظر الأمريكي، وتالياً هذا ما يجعل طهران تحتفظ بمنسوب «معقول» من العائدات النفطية، ويشير في الوقت ذاته إلى أن إيران ستضمن ديمومة تبادلاتها التجارية مع أهم المراكز الدولية باستثناء الولايات المتحدة، وهذه المراكز هي: روسيا- الصين- الهند- البريكس- تركيا- الاتحاد الأوروبي، وهذا يتحقق لإيران، إذا وفت أوروبا بالتزاماتها أي «خلق آلية جديدة» لحماية شركاتها التي تتعامل مع السوق الإيرانية.
في السابق نجحت إيران في تجنب رزمة عقوبات دولية وأممية صارمة انخرطت فيها عدة أطراف، ومن المؤكد أن دولاً كثيرة في العالم غير عازمة الآن كما يبدو على الاستجابة للدعوات الأمريكية ضد إيران.
أما بالنسبة للدولار كعملة للتبادل التجاري وخروج إيران من نظام «سويفت» الذي لم تدخله بالأساس، فهذا الأمر سينعكس على الولايات المتحدة أكثر من انعكاسه على إيران، حيث يقول خبراء مال واقتصاد: إن توسع أمريكا في فرض عقوبات على دول من العالم سكانها أكثر من مليارين، سيدفع هذه الدول للبحث عن أنظمة بديلة لنظام «سويفت»، كما أن الكثير من الدول مستعدة لمواصلة تجارتها مع إيران بعملات محلية، أو أي عملات صعبة أخرى ماعدا الدولار الأمريكي.
وإذا جئنا إلى الناحية الميدانية، يتضح أن إيران لا يمكن اقتلاعها من المنطقة بسهولة (كما تتصور الولايات المتحدة و«إسرائيل» وحلفاؤهما وعملاؤهما)، أو إنهاء دورها، لأن لها حلفاءها في عدة دول عربية مدّت لها إيران ولاتزال يد المساعدة (العراق واليمن وسورية ولبنان وفلسطين)، ولذلك، فهذه الدول لم ولن تنسى الدعم الإيراني لها والذي جاء بناء على طلبها، وتالياً، فإن أوراق واشنطن في المنطقة ليست أكثر من أوراق طهران.
إن العقوبات الأمريكية على إيران لا تستند إلى قرارات دولية، بل تستند إلى النفوذ الأمريكي، وإلى مماشاة وتوافق بعض الدول الحليفة لواشنطن أو العميلة لها مع التوجهات الأمريكية الهادفة إلى الهيمنة على الشعوب، كما أن قرار أمريكا بفرض العقوبات على إيران، لا يمسّ إيران فقط، بل دولاً كثيرة في العالم (دول أوروبية حليفة لأمريكا)، الأمر الذي سيؤدي إلى حرمان دول كثيرة من مبادلات تجارية واسعة مع طهران مثل قطاع السيارات والآلات عموماً، وهذا ما جعل فرنسا وبريطانيا وألمانيا تحتج على هذه العقوبات الأمريكية التي تُلحق الضرر بصادراتها إلى إيران واستثماراتها فيها، إضافة للموقف الأوروبي المعارض للانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي مع إيران من جانب واحد.
ستؤثر العقوبات الأمريكية في سوق النفط العالمي، إذ إن إيران تُزوّد العالم بما لا يقل عن 5% من الاحتياجات النفطية، كذلك يُخشى من تأثير هذه العقوبات في منظمة «أوبك» التي تأسست في العام 1960، إذ إن الولايات المتحدة يهمها التأثير في تماسك هذه المنظمة وشلّ نظام عملها والإضرار بها، وذلك للوصول إلى تخفيض أسعار النفط، الأمر الذي يسمح لواشنطن بتعزيز قدراتها التخزينية من النفط رغم أنها، أي أمريكا، من الدول المنتجة للنفط، ولاسيما بعد توسّعها في إنتاج النفط الصخري، كما يسمح لها بزعزعة بنية المنظمة وخلق صراعات بين أعضائها مع ما يترتب على هذه الصراعات من تداعيات تصبّ في مصلحة واشنطن بالدرجة الأولى.
على أية حال، لاشكّ في أن إيران ستتأثر بالعقوبات، ولكن ليس لدرجة كبيرة كما تتوقع الولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه، فإن إدارة ترامب – رغم الضجيج الإعلامي الذي ترافق مع العقوبات- لا تكف عن تكرار دعوة إيران للتفاوض بشأن ما تسميه واشنطن البرنامج النووي والصاروخي الإيراني، وبشأن ما تدّعيه من اتساع نفوذ طهران في المنطقة، وقد تسربت أنباء تقول: إن هناك مفاوضات غير مباشرة بوساطة أطراف من بينها «سلطنة عُمان» للوصول إلى تفاهمات جديدة.
باختصار، من الواضح والمؤكد، أن العقوبات الأمريكية لن تكسر ظهر إيران، ولن تدفعها إلى رفع الراية البيضاء والاستسلام للشروط الأمريكية ولن تجثو أمام واشنطن وتطلب منها الصفح.