“أنا رجلٌ أبيض عادي”…هكذا وصف سفاح نيوزيلندا نفسه وأكد انتمائه العنصري, وعبر عن استيائه وألمه وإنتقامه, لمجمل العمليات الإرهابية التي تعرض لها أبناء جلدته في أوروبا – بلاد البيض, وألقى اللوّم على كل من عبر حدودها, غازيا ً أو مستعمرا ً, أو لاجئا ًوهاربا ً..إلخ , وحمّل الأمويين الأندلسيين والعثمانيين والأتراك الحاليين, المسؤولية المباشرة لإستباحة أراضيهم والإستيطان فيها, وانتقد كثرة إنجابهم, والهجرات الجماعية, التي اعتبرها البوابة الرئيسية لما يخشاه ويسعى لعدم وقوعه, وبما يعرف بنظرية “الإستبدال العظيم” للشعب الأوروبي الأبيض, فكانت تهديداته لتركيا ولكل من حملهم المسؤولية, وكان تنفيذه للهجوم الإرهابي في كرايست تشيريش , بمثابة جرسا ً قرعه أو صافرة البداية التي كُلف بإطلاقها.
من الواضح أنه أتباع النظريات العرقية للجنس الأبيض “المتفوق”، الذي يدعوه الفيلسوف الألماني نيتشه ب “الوحش الأشقر”… فعلى الرغم من لجوئه إلى التاريخ واستشهاده بعض المعارك والمجازر والأحداث, إلاّ أنه ينطلق من نقطة تاريخية تستثني عشرات المجازر العنصرية التي قام بها أجداده, في أوروبا وأفريقيا وعلى مساحة القارة الأمريكية الكبيرة, وقاموا بإستبدالٍ عظيم لعشرات الشعوب والأمم, ولجأوا إلى استخدام الإبادة الجماعية للشعوب الأصلية كمرحلة أولى, وسعوا لمليء الفراغ وإتمام الإستعمار إلى إستجلاب قطعان الأوروبيين البيض للإستيطان فيها, فيما لجأوا في المرحلة الثانية وعن طريق الرق وتجارة الرقيق إلى ترحيل البشر وجلبهم عنوة ً ليعبروا “حدود البيض”, وأسسوا ممالك الشرّ, إلى أن أعلنوا مع بداية القرن التاسع عشر إلغاء الرق وأصدروا القوانين التي تحرمه في عديد الدول… ويبقى السؤال, هل إنتهى الرق وتجارة الرقيق؟
بالتأكيد لم ينته، واستعاض “الأوروبي الأبيض “عن القوة وجلب البشر كرها ً، إلى جعلهم يأتون طوعا ً، عبر الحروب والإحتلال والحملات العسكرية والحصار والتجويع والضغط على حياة البشر في أوطانهم، فشهد العالم هجرات جماعية لملايين البشر، وكي لا نذهب بعيدا ً، لكم أن تراقبوا عدد اللاجئين إلى “بلاد البيض”، جراء الإحتلال الإسرائيلي لفلسطين، والغزو الأمريكي للعراق، والحرب الإرهابية على سوريا….
كان عليه أن يغضب ويحمّل مسؤولية الإرهاب والهجرات وكل الماّسي، لمن ارتبكوا الجرائم، بهدف الإحتلال وسرقة الثروات والبشر، ومن سعوا للهيمنة على العالم …وكان عليه أن يخشى الإستبدال العظيم الذي أقترفه ولا زال يقترفه عرقه الأبيض …
يبدو أن إعجاب القاتل – العنصري, بأفكار الرئيس دونالد ترامب – العنصري , بوصفه “رمزٌ للهوية البيضاء المتجددة والهدف المشترك”, وبشهادة محاميه مايكل كوهين الذي وصفه صراحة ً بالرجل “العنصري”, وبمحاولته نسف كل ما قام به سلفه “الأسود” باراك أوباما, وعنصريته وتهجمه على النائبة “إلهان عمر”, ودعمه اللامحدود لتطرف الكيان الإحتلال الإسرائيلي, ولوجود قواته اللاشرعي في سوريا, ومنعه عودة اللاجئين السوريين إلى وطنهم … هذا كله يساعدنا على فهم رسائله التي وجهها إلى أمريكا, أسوة ً بتلك التي وجهها إلى أوروبا وتركيا والتاي استعرضناها في الجزئين الأول والثاني من مقال “سفاح نيوزيلندا”.
الجزء الثالث – سفاح نيوزيلندا وأمريكا
فمن خلال بيانه وحديثه عن نظريات “الإستبدال العظيم” و”الإبادة الجماعية الكبرى”، يتضح أنه أكثر من أوروبيٍ أبيض، وأنه أكثر تمايزا ً بوجهه اليهودي – الصهيوني، فعادة ً ما يشكل اليهود رأس حربةٍ للحديث والترويج لهذه الأفكار، وهم بدورهم من يستخدمون الأفارقة والأقليات والمسلمين والمسيحيين وغيرهم، للوصول إلى “الإستبدال العظيم”، وعادةً ما تكون أهدافهم إضعاف الرجل الأبيض، وجعل أوروبا تتوقف عند حدود كونها أوروبا مسيحية بيضاء.
فقد تحدث عن أمريكا بطريقةٍ تشي بأنه مدرك للواقع الأمريكي، ومعرفته بالتركيبة الاجتماعية والسياسية والثقافية في أمريكا، وإلمامه بالدستور الأمريكي، وبالإنتخابات الأمريكية، وطريقة اختيار وانتخاب الرؤساء فيها …
ويقول “تارانت” أنه أراد أن يخلق أزمة في أمريكا، وأنه استخدم السلاح الاّلي (الرشاش)، ولم يستخدم سلاحا ً أشد فتكا ً، وأكد أنه تقصد استخدام الرشاش، وأنه يعرف تماما ً أن الإعلام الأمريكي سوف يتحدث عن السلاح وظاهرة تفشيه بين الناس، بحسب الستور الثاني للولايات المتحدة الذي يسمح للأمريكيين بإقتناء السلاح، وعليه أكد أنه أراد خلق صراعٍ داخل الولايات المتحدة ما بين اليمين المتمسك بالسلاح وبتجارته وبحرية اقتنائه، وما بين اليسار الذي يريد أن يقنن من تفشي وانتشار السلاح في أيدي الناس…
وأوضح أن أهدافه من إطلاق هذا الصراع، جعل أمريكا تُقلع عن التدخل في أوروبا، كما سبق لها وأن تدخلت في البلقان وكوسوفو، حيث أساءت بتدخلها إلى الجنس الأوروبي المسيحي، وأنه من الهام إضعاف أمريكا بحيث لا تكرر تدخلها ثانية ً لصالح المسلمين، والكلام دائما ً بحسب “تارانت”.
وفي الوقت ذاته يتحدث عن التوسع الأمريكي، ويبدي إنزعاجه الشديد من الترويج الأمريكي لفكرة “الإنصهار”، والذي تقوم عبره بوضع والسود والبيض، المسيحيين والمسلمين واليهود والملحدين، في بوتقة الإنصهار لتصنع منهم أمريكيين، وبهذا يؤكد رفضه لفكرة التعددية والديمقراطية الأمريكية.
في الوقت ذاته يؤكد أن سعيه لخلق الصراع في أمريكا بين السود والبيض والمهاجرين والمسلمين …إلخ، لأنه يعتقد أنها لا تساهم بمساندة الرجل الأبيض الأوروبي المسيحي، وعليه يسعى لإدخالها في حروبٍ داخلية كحرب البلقان التي استشهد بها، من أجل إحداث الصدمة التي ستؤدي إلى صحوة الرجل الأبيض الأمريكي للخطر المحدق، ليتحول نحو مناصرة البيض في أنحاء العالم.
يبدو أنه ومع تلك الأفكار التي تأخذه إلى عالمٍ خاص به وبمن يشبهونه، يعتبر نفسه بطلا ً وليس قاتلا ً، وقد يعود إلى الحرية بعد سنوات سجنه، ليُستقبل كبطل تاريخي أنقذ أوروبا والعرق الأبيض برمته.
خاتمة….على الرغم من كون هذا العمل الإرهابي فرديا ً في ظاهره, إلاّ أننا لا نراهن على كونه حادثا ً أو عملا ًعابرا ً, فالقاتل ينتمي فكريا ً ليلتقي مع طغمةٍ حاكمة في العالم الأوروبي والغرب الأمريكي, ولا أحد يدري أعداد المتطرفين اليمينيين اللذين يؤيدون تلك الأفكار العنصرية المتوحشة, إذ نراهم اليوم يعانون انفصام الشخصية وبإمتياز, فهم من جهة يتباكون على إرهاب “داعش” وأخواتها, ويتناسون إرهابهم الدولي المنظم, ودعمهم المطلق للإرهاب, ويتناسون من جهةٍ أخرى أجدادهم اللذين أبادوا ملايين البشر من السكان الأصليين في القارتين الأمريكية والأسترالية وغير مكان…
ولا يمكننا تجاهل حقيقة الفكر الصهيوني الذي يقف وراء نشر الكراهية ضد من يصنفونهم أعدائهم، في وقتٍ تخضع وتنساق الولايات المتحدة الأمريكية بكامل طاقاتها وإمكاناتها ونفوذها وراء تحقيق الحلم الصهيوني بالسيطرة على العالم، عن طريق نسخٍ جديدة أنتجتها وأوصلتها إلى سدة حكمها، وجعلتهم يتسابقون على خدمتها وطاعتها، ولك أن ترى الرئيس الأمريكي يدعي بأنه “لا يؤمن بتنامي خطر القومية البيضاء في العالم”، على الرغم من وجود عشرات ومئات الدلائل والبراهين والإحصائيات التي تثبت العكس تماما ً…. ويذهب للإعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية العنصرية وبالقدس عاصمتها الأبدية، ويسعى مع الملايين المسيحيين المتصهينين لتحقيق الأهداف الصهيونية عبر تعميم إيديولوجية عالمية أخذ يعتنقها ويمولها مسيحيو الغرب أنفسهم.