تنطح البعض عن حسن نية أو سوء نية – وهذا على الارجح – وخاصة من جهابذة السلطة اللذين اعتادوا وتأقلموا على العيش في كنف الاحتلال لما يوفره لهم من العيش الرغيد بأريحية وخاصة على الجانب الاقتصادي حيث اصبح من كان يمشي “بزنوبا” من أصحاب الملايين والفلل والسيارات الفارهة. أما الطبقة العليا منهم فأصبح البعض منهم من اصحاب المليارات من خلال الاحتكارات التي منحت لهم او لافراد عائلاتهم في القطاعات والانشطة الاقتصادية المختلفة, هؤلاء خرجوا علينا بمقولة ان دخول المقاومة في غزة بصواريخها كان خطأ كبيرا لانه سلب أو سحب البساط من تحت أقدام المقدسيين والمقاومة “السلمية” التي طالما تغنت بها السلطة الفلسطينية هذا في الوقت التي ما زالت ترسل أجهزة أمنها الدانتونية لقمع المتظاهرين السلميين من الفلسطينيين الذين تظاهروا من اجل نصرة شعبنا في القدس.
ما نريده هنا هو التاكيد على بعض النقاط بشأن دخول المقاومة في غزة بصواريخها ردا على المتخاذلين والطابور الخمس الذي يعيش بيننا للاسف
أولا : إن المرابطين والمنتفضين في القدس في باب العمود والشيخ جراح والمسجد الاقصى هم من طالبوا إخوانهم في المقاومة في غزة بالتدخل من خلال هتافاتهم لرفد صمودهم ووضع حد للتوحش وتوغل الشرطة الاسرائيلية وقطعان المستوطنين الذين قدموا بالحافلات للاحتفال بما يسمى ” مسيرة الاعلام” بذكرى دخول قوات الاحتلال الاسرائيلي الى قدسنا عام 67 والذي اعلن بعضهم وهم من غلاة الصهاينة واكثرهم تعطشا للدم الفلسطيني من التوجه الى داخل ازقة القدس القديمة وإقتحام المسجد الاقصى وإقامة صلواتهم في باحاته.
ثانيا: ‘إن حسابات المقاومة من حيث توقيت التدخل وماهيته كانت بحسب تقديري المتواضع مدروسة بدقة متناهية. فهي لم تبدأ بإطلاق الصورايخ بل اعتمدت على منحى تدريجي. حيث بدأت بارسال البالونات الحارقة الى المستوطنات السرطانية فيما يسمى بغلاف غزة وأشعلت الحرائق فيها وفي مزروعاتها, ثم عمدت على الاشتباكات على الخط الفاصل على الشريط الحدودي المصطنع وبدأت بعدها بعمليات الارباك الليلي وكلها اشكال من المقاومة الشعبية.
ثالثا: المقاومة في غزة ومن خلال غرفة العمليات المشتركة لجميع الفصائل أعطت الانتفاضة الشعبية في القدس مساحة زمنية لتأخذ مداها في التوسع والانتشار والامتداد لتشمل جميع المناطق الفلسطينية في فلسطين التاريخية والشتات وفرض القضية الفلسطينية التي كانت القدس رمزها لما لها من خصوصية في الصراع العربي-الاسرائيلي ولكي تفضح ممارسات الاحتلال وتعديه على المقدسات وتؤكد على عروبية القدس. ولم تدخل المقاومة بصواريخها المباركة التي كان أولها استهداف المستوطنات في القدس الا عندما زاد توحش الشرطة الاسرائيلية وقطعان المستوطنين ومحاصرة المصليين والاعتداء عليهم بوحشية فائقة ورمي القنابل الصوتيةوالمسيلة للدموع على المصليين داخل المسجدومنعهم من الخروج ومنع الطواقم الطبية من الوصول لتقديم الخدمات الطبية للمصابين وحالات الاختناق نتيجة الغازات, وعدم الاستجابة لمطلب المقاومة بإخلاء ساحات المسجد الاقصى والسماح بخروج المحتجزين بداخله. الواجب الوطني والاخلاقي والانساني والديني كان يستدعي دخول المقاومة في غزة.
رابعا: إن إقدام المقاومة على التدخل بصواريخها جاء ليؤكد للمقدسيين انهم لن يتركوا لوحدهم في الساحة دون سند ودون الدفاع عنهم والتاكيد على الوحدة الجغرافية والديمغرافية للاراضي الفلسطينية والشعب الفلسطيني وعلى ان المقاومة لن تعطي الفرصة للمحتل والمستعمر للاستفراد بهذه المنطقة او تلك تحت سياسة فرق تسد. لقد وضعت المقاومة نصب أعينها وبوضوح هذه الاستراتيجية والمعادلة التي فرضتها على العدو. المقاومة مسؤولة عن حماية شعبها وعلى اي بقعة في فلسطين من إعتداءات المحتل والمستعمر ومن هنا تكتسب شرعيتها . وللتاكيد على ذلك فإن عمليات المقاومة أطلق عليها “سيف القدس”.
خامسا: كما ان إقدام المقاومة على هذه الخطوة لم يكن قرارا اعتباطيا أو عاطفيا أو مغامرا كما يحلو للبعض ان ينعق وينبح. المقاومة ارادت من خلال دخولها على خط غزة-القدس إدخال مفهوم وتثبيت معادلة جديدة في الصراع مع العدو الصهيوني. المعادلة التي يتم ضمنها تكريس التزاوج والتلاحم العضوي بين المقاومة الشعبية والمقاومة المسلحة وعدم الفصل بينهما بوضع جدار عازل بين الاثنين في محاولة بائسة ويائسة للقضاء على الاثنين معا. وهي بهذا تؤكد على رفض نهج أوسلو الاستسلامي والمدمر التي تنتهجه السلطة الفلسطينية وزبانيتها.
سادسا: إن دخول المقاومة المسلحة بجميع فصائلها على خط غزة – القدس أدى الى حالة غير مسبوقة من استنهاض القوى المدفونة للشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده سواء في فلسطين التاريخية المحتلة أو خارجها والشعور بالعزة والكرامة وأعاد الأمل بامكانية التحرير الكامل للارض التي اغتصبت منذ 1948. الشعب الفلسطيني موحد في الميدان وعلى الارض وإتساع المقاومة الشعبية لاهلنا في الضفة وظهور الخلايا المسلحة والتقارير التي تصل عن بعض العمليات على الحواجز وبالقرب من المستوطنات السرطانية تبشر بالخير. نعم قد يكون حجم الخسائر المادية والبشرية كبيرا وخاصة ضمن الخلل الموجود في موازين القوى ولكن من قال ان طريق التحرير مفروشة بالورود.
سابعا: إن الاحداث في فلسطين والتلاحم بين المقاومة الشعبية والمسلحة لم تقتصر اثاره في استنهاض الساحة الفلسطينية والشعب الفلسطيني بل تعداه الى دول المنطقة وخاصة دول الطوق كما تسمى. فقد تجمع قبل فترة مئات المصريين في سيناء في المنطقة الحدودية مع الكيان الصهوني هاتفين لنصرة الاقصى كما تجمع الكثيرون في لبنان على المنطقة الحدودية وتخطوا السياج الحاجز ودخلوا الى المنطقة التي يسيطر عليها الجيش الاسرائيلي. والى جانب هذا تمكن بعض الشبان الاردنيين الذين توجهوا الى الحدود الفاصلة بين الاردن وفلسطين المحتلة من عبور السياج الفاصل وتمكنوا من إحراق نقطة تابعة لجيش الاحتلال كما اوردت الانباء. هذا عدا عن حالة الاستنهاض لجميع شعوب دول المنطقة والعالم حيث عمت المظاهرات نيو يورك وواشنطن وباريس والنمسا ولندن وغيرها من الدول والعواصم الاوروبية والاسيوية الداعمة للحق الفلسطيني. هذا بعكس ما حاولت السلطة وزبانيتها وبعض الدول المطبعة والمحبطة من نشره للابقاء على ثقافة الاستسلام والخنوع وتقبل الواقع وترداد لا حول لنا ولا قوة هذه الثقافة التي صرف من اجلها المليارات في محاولة كي الوجدان العربي.
ثامنا: وأخيرا ان الاحداث التي جرت وخاصة دخول المقاومة في غزة قد جعل الكثير من الكتاب والصحفيين داخل الكيان الاسرائيلي التشكيك بقدرات الجيش الاسرائيلي وإمكانية تحقيق اي نصر على الشعب الفلسطيني وأن الكيان الصهيوني يتعرض الى تهديد وجودي فعلي. وكما اشار احد الصحفيين الاسرائيليين سفي هندلر إن الاخطر من الصواريخ ونوعها وعددها هو نجاح المقاومة الفلسطينية في غزة ” في لسع الوعي الاسرائيلي , لقد جعلوا اسرائيل في نظر قاطنيها مكان غير آمن, عنيف, مفكك وهذه ضربة قوية لنا ولمكانة اسرائيل محليا ودوليا وهذا يحتاج لإعادة نظر لان حزب الله بلا شك لديه قوة أكبر بعشرات أضعاف الفصائل الفلسطينية وترسانة صاروخية أكبر بكثير”. وهذا التصريح وغيره من التصريحات من داخل الكيان الصهيوني يؤشر الى مدى الرعب والخوف الذي ينتاب المؤسسة السياسية والعسكرية وهاجس يقض مضاجعهم وهم اللذين حاولوا إقناع يهود العالم بأن “دولة إسرائيل” “اليهودية” هي المكان الاكثر امنا ليهود العالم هذه الاكذوبة التي حاولت الصهونية العالمية تسويقها لاجتذاب يهود العالم الى الكيان الصهيوني. أحدى المخاوف الان داخل الكيان يتمحورفي هجرة أعداد كبيرة من اليهود الى خارج هذا الكيان وخاصة وأنه بحسب الاستطلاعات داخل الكيان ان أكثر من 50% من جيل الشباب لا يرون ان لهم مستقبلا في هذا الكيان.
صواريخ غزة لم تسحب البساط من تحت اقدام المقاومة الشعبية لا للمقدسيين ولا لشعبنا الفلسطيني ولكنها سحبت البساط من تحت أقدام كل المنتفعين من بقاء الاحتلال والذين تأقلموا على وجوده معتبرين إياه من أهل البيت…صواريخ غزة سحبت البساط من تحت أقدام اللذين ما زالوا يعتبرون أوسلو سيء الصيت وما تلاه من إتفاقيات مهينة ومشينة بمثابة البقرة المقدسة التي يجب عدم المساس بها مهما تجرأ الاحتلال وتغولفي وحشيته وفاشية المستوطنين القدامى والجدد…صواريخ المقاومة دفنت إتفاقيات “أبراهام” و “صفقة القرن” …صواريخ غزة أعادت لنا العزة والكرامة واستنهضت كل عناصر القوة فينا وفي شعوب المنطقة…صواريخ غزة بتزاوجها مع المقاومة الشعبية كنست ثقافة الخنوع والاستسلام والقبول بالواقعية السياسية المذلة… ثقافة لا حول لنا ولا قوة الا ان نجعل هذا الكيان المسخ ان يركب على ظهورنا ويمتص دماء شعوبنا ويسرق مقدراتنا ….صواريخ غزة بعثت الحياة في الكثيريين الذين ظنوا أن فلسطين قد ضاعت الى الابد….هذا بعض مما احدثته المقاومة الموحدة في قرارها والموحدة في فعلها على الارض والتحامها بالمقاومة الشعبية….
كاتب وباحث اكاديمي فلسطيني