من العار أن تتحول السياسة إلى ضحك على الذقون. لأنه عندما يصبح التحيل على فرد جريمة يعاقب عليها القانون و يبقى اغتصاب إرادة شعب بأسره مهرجان تدق له الطبول و يحشد له المتزلفون و المتلونون المتحولون سياسياً ، لا بد لنا أن نعي تحول السياسة إلى مرادف للوضاعة و النجاسة حكراً على المتآمرين و المتواطئين و المهرجين..
النخبة السياسية دون استثناء قد فشلت تماما في أول اختبار لها في تطبيق أفكارها وفي ترسيخ الديمقراطية سواء كانت حاكمة أم معارضة… وكل تلك الأحزاب والأفكار والإيديولوجيات كانت تدّعي أنها المعارض الموضوعي للإستبداد وللسلطة القهرية وللظلم الاجتماعي زمن بن علي .. بمجرد أن وصلت إلى الحكم تهاوت في الفشل… وانكشف خداعها.. ولا يمكن انكار وجود إفلاس سياسي لدى النخب التي تولّت الحكم طيلة السنوات العشر الماضية ، فقد ذهبت بعيدا في المناكفات الأيديولوجية، وراكمت التصادم الحزبي، وبحثت عن مصالح فئوية ضيقة، وبتعطيلهم لمشاريع القوانين التي تخدم مصلحة الشعب وفئاته الهشة، قد انخرطوا في المتاجرة بآلام الناس واستغلال مآسيهم، ولا يرونهم سوى خزّان انتخابي لا غير، ومراهقتهم السياسية جعلت المرحلة الانتقالية معقدة وصعبة،
لا شك أنه أصبح من الواضح أن الأزمة السياسية التي نعيشها في تونس ترجع إلى المنظومة السياسية التي لا تلائم بتاتاً الواقع السياسي والإجتماعي التونسي فهي منظومة سياسية تعاملنا على أساس أقليات داخل الدولة، و الذين يرفعون شعار “25 جويلية 2021” وأغلب هؤلاء ممّن عاش القهر في فترة منظومة عشرية 2011-2021 و اكتشفوا لذّة الحريّة بعد الإطاحة بها، و اقتنعوا بأنّ الدّيمقراطيّة هي الرّكيزة الأساسيّة لإكتشاف طريق الحرية والسّير فيه، و أمّا الطرف الثاني فيتكوّن من المتشائمين الذين يحنّون إلى ماكان عليه الوضع قبل 25 جويلية ، رافعين شعار “ضد الإنقلاب” ، وأغلب هؤلاء من بقايا المنظومة السياسية الساقطة أو من الذين كانوا يتمعّشون من الوضع السّائد آنذاك، أو ممّن انحصرت اهتماماتهم وغاياتهم في بطونهم لاغير، لاتعنيهم حرّية ولا كرامة ولا ديمقراطيّة،
كان خروج التّونسيّين في الخامس و العشرين من جويلية 2021 لحظة تاريخيّة فاصلة وحدثاً جللاً، يمكن اعتباره نهاية مرحلة “الجمهورية الثانية ” التي أرست دعائمها طبقة سياسيّة متعالية عن شعبها تعاملت مع الدولة بمنطق الغنيمة والولاءات ، وبالتالي يمكن اعتبار 25 جويلية تدشيناً لمرحلة “الجمهورية الثالثة” التي سيبنيها التونسيّون من خلال ممارسة حقّهم في اختيار من ينوبهم في تأثيث أجهزة الدّولة المعبّرة عن هويّتهم وتطلعاتهم، العشرية الأخيرة كل ما حفظناه منها و خبرناه فيها أنها تذكرنا أننا شعب محروم من حقه في اختيار أولياء أمره و حكامها، شعب ممنوع من تقرير مصيره، شعب محجور عن الدفاع عن مصالحه، شعب يُسام بقوته و قوت أبنائه إمضاء صك ولائه للمستبدين الظالمين،
ان تحاول منظومة الفسادو والافساد استرجاع أنفاسها فهذا امر منتظر ومتوقع.. رغم ما حدث في تونس من غضب ودعوات ملحة للتغيير الشامل والقطع مع منظومة الفشل و الفساد، تتعامى النهضة عن هذه الحقيقة، وتتوهم أن لها دوراً مازال قائماً، وأن بإمكانها المساهمة في الإصلاح، فالغنوشي، بعد فشل محاولة تمرده على الإرادة الشعبية، أصبح مستعداً لتقديم تنازلات، كالتخلي عن رئاسة حركته والاستقالة من رئاسة البرلمان، متجاهلاً أن ذلك البرلمان لن يعود بصورته التي كانت حتى يتم الإنتهاء من خطوات التصحيح..القضية الأولية المطروحة و التي تقتضي تحرير التونسيين من الوصاية منظومة الغنيمة و هي مسؤولية تتطلب تحولات منهجية و شجاعة و يد من حديد و إرادة و دعم شعبي مطلق.. ما حدث يوم 25 جويلية كان لابدّ أن يحدث ،للتخلّص من هيمنة الدولة العميقة على الدولة الشرعيّة التي تحولت إلى دولة متهالكة.. تونس تعيش منذ 10 سنوات أزمة حكم حقيقية، وأزمة قيم، وهي تواجه تحديات سياسية واقتصادية مفصلية تهدد تماسك مؤسسات الدولة ونجاعة منظومة الحكم ما نجم عن المحاصصة الحزبية وتقاسم النفوذ من خيارات عشوائية وغير محسوبة العواقب انتهجتها أحزاب الحكم بقيادة حركة النهضة ومن تحالف معها، ومنظومة الأحزاب التي هيمنت على المشهد العام وتولت إدارة شؤون البلاد منذ 2011، فاقدة تماما لإرادة تغليب المصلحة الوطنية على المصالح الحزبية والفئوية.. كما أنها لا تتحلى بالكفاءة المطلوبة والالتزام الوطني والأمانة التي تؤهلها لقيادة التحولات التي طرأت على البلاد والمجتمع منذ 2011، ولأنها أظهرت عجزا مطلقا على تلبية ولو الحد الأدنى من طموحات التونسيين في العدالة والاستقرار وإرساء دولة القانون، حيث لا يهمها من العملية السياسية برمتها إلا البقاء في السلطة والاستئثار بغنائمها، فبحيث الطبقة السياسية الحاكمة منذ 2011 ترفض اليوم رؤية الحقيقة والإقرار بأنها قد فشلت فشلا ذريعا في تحمل مسؤولياتها والتزاماتها الوطنية، وعجزت عن إدارة خلافاتها بطريقة حضارية وضَيَّعتْ ما مضى من عهدتها في تجاذبات ومساومات رخيصة وصراعات عقيمة لا علاقة لها بمصالح البلاد وخدمة العباد، و عندما تكون المنظومة السياسية محكومة وفق رؤية المغانم فلا يمكن التعويل عليها ..والتي الى اليوم لم تثبت سوى الفشل الذريع في إدارة شؤون البلاد وإنقاذها من الوضع المتردي الذي وصلته في كل المستويات، فقط لأن فاقد الشيء لا يعطيه..
الشعب التونسي قال كلمته وانتهى الأمر و منظومة الفشل إنتهت إلى غير رجعة و المناورات الداخلية و الخارجية لم تعد تجدي نفعاً ، فالشعب التونسي إنتقم من الذين حكموه، سواء بالديكتاتورية أو بالدين أو بالديمقراطية الزائفة إنتقم من أحزاب وحكومات وبرلمان وجميع السلطات التي لم يرى منها إلاّ كل ما يقتل فيه الأمل ويطمر الطموح، فهو درس قاسٍ لمن يحكمون ولمن حكموا قبلهم مفاده أن الشعب قد لفظهم وأنّ الناس قد ملّت الوعود الفارغة وأنّ حديث السياسة، والانقلابات والمؤامرات والانشقاقات والتحالفات لم يعد يعني الناس في شيء وأنهم الآن يختارون بملء إرادتهم من يشاؤون ولم يختاروكم وعاقبوكم لأنكم تستحقون العقاب، والمسؤولية هنا لا تقع على عاتق الأحزاب ولا الدولة ولا حتى السيستام نفسه بقدر ما تقع على مجموعة من الفاشلين الهواة من عديمي الخبرة الذين اعتقدوا أنهم بالشعارات فقط يقدرون على قيادة الدولة وإقناع الشعب وأنهم بما حفظوه من قواعد اتصال بدائية يستطيعون ان يضمنوا استمرارهم في السلطة إلى يوم الدين، فالرغبة لم تكن في خدمة البلاد ولا النهوض بها بقدر ما كانت رغبة في البقاء في الحكم، ورغبة في الاستمرار في السلطة ولو على حساب البلاد والعباد،
تونس تعيش هذه الفترة مرحلة تاريخية واستثنائية على وقع القرارات التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد ، والتي ستأخذ البلاد إلى مسار جديد، الرئيس قيس سعيّد دفعته الضرورة وخطر تهاوي الدولة ومؤسساتها لإتخاذ تدابير استثنائية وقتية بطبيعة الحال، تحتاجها البلاد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وتصحيح المسار السياسي الذي أضر بالاستحقاقات الاقتصادية والاجتماعية، تونس في حاجة إلى قيادة ثورية وطنية، وإلى نظام سياسي واضح غير مشتت. تحتاج إلى قيادة من عمق الثورة ومن أعماق الشعب بعيدا عن الواجهات الصورية الكاذبة للدولة العميقة ، ومن الواجب الوطني أن تكون الطبقة السياسية في مستوى الرهانات، وعلى وعي بحجم التحدّيات التي تتطلّبها المرحلة. وارجاع دواليب الدولة إلى العمل بشكل طبيعي مسألة مهمّة، والتجاذب حول ما اتخذه الرئيس من إجراءات ليس فيه أي مصلحة وطنية، فتراكم 10 سنوات من العبث السياسي، يقتضي الذهاب إلى الحلول، والفصل 80 من الدستور بداية انفراج لإخراج البلد من المناكفات والصراع السياسي، و العبث بمؤسسات الدولة.. و بالتالي إيقاف مسار الفساد والعبث بالدولة ومؤسساتها أولوية وطنية تعلو على كل شيء، الرئيس قيس سعيّد أنقذ الدولة من الكابوس الجاثم عليها و الكاتم لأنفاسها، و أنّ السبب في هذه القرارات هي المنظومة القديمة التي لم تصلح نفسها من داخلها عجزًا منها، فجاء الفصل 80 رحمة للعباد.. الدستور بشكل عام هو مجموعة من المبادئ الأساسية ، والهدف الأساسي منها هو صياغة قوانين و أنظمة تهدف إلى تطوير البلاد وخدمة الناس جميعا، و بالتالي الدستور ليس وثيقة مقدسة تسعى لترسيخ القديم وعرقلة تقدم المجتمع أو يُفصّل على مقاس مصلحة جهة معينة ، وأي دستور كهذا يجب التخلي عنه خدمة للشعب و لمصلحة تونس.. فالدستور قابل للتطوير بتطور الزمان، و للرئيس قيس سعيّد مشروعيّة شعبيّة ومداً شعبيًا تزول بموجبهما الشرعيّة الدستوريّة ، الخطوة التي إتّخذها الرئيس تستند على مشروعيّة شعبيّة و بالتالي المشروعيّة الشعبيّة أسقطت الشرعيّة السياسيّة و الدستوريّة وهذا الأمر لا يوجد به ثغرات يمكن من خلالها إيجاد حيلة للكذب على الرأى العام أو تضليله، فالأمر محسوم، و الشرعيّة الوحيدة هي شرعيّة الشعب التي أسقطت الشرعيّة السياسيّة ، ولا يمكن الإدعاء بأن هناك شرعيّة دون العودة إلى الشعب ولابد من الإنصياع لإرادته لأنه هو الذى يمنح الشرعيّة برضاه وهو الذى يسحبها .. فالشرعية ليست مطلقة بل محكومة برضا الشعب.. فلا شرعيّة فوق شرعيّة الشعب.. لذا أنا من الذين يؤمنون بأنّ قرارات رئيس الجمهورية قيس سعيّد لحظة مفصلية في تاريخ تونس نحو ديمقراطية حقيقية يكون فيها الشعب التونسي بالفعل صاحب السيادة ومصدر السلطات ، و من الذين يؤمنون بأنّ سلطات مجتمعة مؤقتا بيد رجل عادل إنحاز لشعبه ، أفضل ألف مرة من أن يتقاسمها اللصوص والخونة والعملاء والفاسدون..
مؤامرات بعض الأطراف على وطنهم أصبحت مكشوفة، لا تحتاج لدلائل وقرائن لإثبات زعزعة إستقرار الوطن ومحاولة إحداث شقاق لخدمة أغراض أطراف معينة تعمل وفق أجندة أجنبية ممولة بمليارات الدولارات لتخريب التجربة الديمقراطية.. و سوف تظل المنظومة تعمل في الغرف المظلمة وتعقد صفقات علنية مع بعض الأطراف الداخلية و الخارجية ، ولكن يظل الرهان معقوداً على وعى الشعب الذي يعرف أنّ الديمقراطية لا تنبت فى أحضان الفساد وأن الدين ليس جسراً للحكم.. فالدرس كان قاسيا جدا على منظومة الحكم وعلى الطبقة السياسية سلطة ومعارضة وما عليها الا ان تراجع حساباتها وان تستوعب الدرس جيدا وان تعمل لتغيير نفسها وخطابها وأدائها وان تراكم خبراتها للمرات القادمة أما الان فقد انطلق القطار وانتهت اللعبة.
عاشت تونس حرّة مستقلّة
عاش الشعب التونسي الحر صاحب السيادة