بدأت القوى العظمى الرئيسة في العالم تعترف بوجود مؤكد لظاهرة تعدد الأقطاب في النظام العالمي الجديد وانتهاء وجود ظاهرة القطب الأميركي الواحد الذي ساد بعد انهيار كتلة الدول السوفييتية عام 1991. وتتفق معظم الدراسات العالمية السياسية بأن ظاهرة الحرب الباردة التي سادت على قاعدة القطبين المتناقضين لن تكون البديل في السنوات العشر المقبلة لأن خريطة جديدة للنظام العالمي بدأت تؤكد مظاهرها على شكل عالم متعدد الأقطاب بمشاركة قوى إقليمية لا يمكن تجاهل وجودها ومصالحها في مختلف القارات.
فقد بينت دراسة نشرها المعهد الألماني للدراسات العالمية والإقليمية بعنوان «تعدد الأقطاب العالمية الكبرى ومستقبل القوى الإقليمية» أن الأقطاب العالمية المتعددة الكبرى ستضطر أثناء بنائها لنظام عالمي جديد إلى وضع حسابات لقوى إقليمية من ناحية قدرتها ودورها ومصلحتها في المناطق التي تتمتع بنفوذ إقليمي فيها.
وترى الدراسة الألمانية أن دولاً إقليمية في أميركا اللاتينية مثل البرازيل والمكسيك وربما الأرجنتين بدأت تتشكل لها مصالح في مناطقها الإقليمية وهذا ما يبرز بشكل واضح في آسيا والشرق الأوسط حيث تتزايد قدرة عسكرية إقليمية مستقلة لإيران (83 مليون نسمة) تقابلها قوة إقليمية لتركيا (80 مليون نسمة) وهي عضو في حلف الأطلسي «ناتو». وهناك مصر (103 ملايين نسمة). وباكستان القوة النووية الإقليمية (ما يزيد على 200 مليون نسمة).
وفي منطقتنا لا يمكن وصف “إسرائيل” بالقوة الإقليمية لأنها لا تستمد قدراتها العسكرية والاقتصادية من عدد المستوطنين الذين يزيد عددهم عن ستة ملايين، بل من القوة الكبرى الأميركية ودول الغرب التي تعد الضامنة لحمايتها ووجودها منذ الإعلان عن تأسيسها الاستعماري عام 1948 وهي كما يسجل تاريخها العدواني كيان وظيفي تعود المصالح التي يحققها لصالح الولايات المتحدة بشكل رئيس، لأن الإدارات الأميركية هي التي تحدد سياسته الخارجية وتضمن وسائل بقائه وعلاقاته.
هذا الكيان لا يعد قوة إقليمية ذات وزن بذاتها أو بمصادر قوتها البشرية والاقتصادية لتحقيق مصالح إقليمية له، بل إن دولة كبرى أخرى تحدد له هذه المصالح وتسخر قدرتها الحربية لصالح تحقيق هذه الأهداف وهذا ما يؤكده هنري كيسنجر الذي قال للباحث الإسرائيلي ياغيل هانكين من مركز (هاشيلوح) العبري: «إسرائيل ليست لها صلاحية بتحديد سياستها الخارجية بل سياستها الداخلية فقط». ولذلك نرى أن السياسة التي ينتهجها الكيان الصهيوني تجاه قوى إقليمية كبرى في المنطقة مثل إيران ومصر تعتمد على دور القوة الكبرى الأميركية، فبالنسبة لإيران لا تستطيع تل أبيب لوحدها مواجهة إيران بل هي بحاجة بشكل لا غنى عنه لأن تشن واشنطن نفسها الحرب على إيران لضرب قدراتها الإقليمية وتفتيتها لكي يبقى الكيان قوة قادرة على التحول إلى دور إقليمي أوسع وهذا ما حققته واشنطن لتل أبيب حين بذلت كل جهودها وتهديداتها لدفع مصر باتجاه عقد اتفاق كامب ديفيد، وقدمت لمصر مساعدة مالية سنوية لهذه الغاية فأخرجتها من دورها الإقليمي المستقل في العالم العربي والمنطقة.
ويبدو أن المرحلة الانتقالية بين نظام القطب الأمريكي الأوحد المنتهية صلاحيته وبين نظام تعدد أقطاب القوة العظمى ستشهد دوراً متزايداً لصالح القوى الإقليمية الكبرى وخاصة في منطقتنا والتحالف بين قوة كبرى مع قوة أو قوى إقليمية مستقلة لتحقيق المصالح المشتركة. والجدير بالذكر أن روسيا والصين كانتا من الدول الكبرى التي أدركت أهمية دور القوى الإقليمية المستقلة والتوجه نحو تعاون لبناء المصالح المشتركة معها وهو ما تجسد في تحالف دول «بريكس» الذي يضم البرازيل وجنوب إفريقيا والهند إلى جانب الصين وروسيا. أما تركيا فهي دولة إقليمية لكنها مقيدة بتحالف أطلسي لا يسمح لها بتحقيق مصالح إقليمية على حساب أعضائه أو أهدافه وأي مصلحة تحققها يجب أن تكون خدمة لمصالحه وهذا ما تسبب بخلاف بينها وبين هذا الحلف ومعه الاتحاد الأوروبي في موضوع نزاعها مع قبرص واليونان ومحاولة توسيع نفوذها إلى ليبيا. أما مصر فما زال لديها هامشاً يتيح لها حماية دورها الإقليمي بغض النظر عن أي اتفاقات تعيق هذا الدور إذا رغبت بذلك بل أتاح لها التعاون مع موسكو وبكين لحماية هذا الدور، وفي النهاية تعد القوة الإقليمية الإيرانية قوة من ذاتها وليس من خارجها بينما تفتقر تل أبيب وأنقرة لهذه الميزة الضرورية لأي قوة إقليمية، ولذلك سيظل مستقبل المنطقة رهناً بتطور محور المقاومة الذي يشكل بقاعدته السورية إطاراً إقليمياً قابلاً لمشاركة كل قوة أو دولة عربية مستقلة لمناهضة الاستعمار وقوى الهيمنة الامبريالية.
* كاتب من فلسطين