بعد حقبة الدكتاتورية التي مرت على الشعب التونسي، وجد هذا الأخير نفسه في أجواء مغايرة تماما لما كان فيه، وانتهى بها زمن الحكم الاستبدادي للحزب الواحد والزعيم الواحد، وبدأت البلاد تأخذ طريقها نحو الديمقراطية، لكنها كانت بخطوات متعثرة، لم يدرك فيها الشعب ما هو مطلوب منه، وبقي سلبيا في التعامل مع حقوقه وواجباته.
مرّ انتخابان برلمانيان ورئاسيان، خلال ثماني سنوات تقريبا، ولم يكن الخيار الشعبي موفقا بنسبة كبيرة، بل لقد لوحظ عزوف لا يستهان به من طرف الشعب، كاد يصل إلى النصف، مما أشر إلى زهادة منه، في المشاركة في القيام بواجبه الانتخابي، يمكن إرجاع أسبابها، الى عدم قناعة هؤلاء المواطنين، بالنخب المتقدمة لنيل ثقته، وقد تبين فعلا ان عددا ممن نال ثقة الناخبين، لم يكن همه سوى مصلحته، وكان منهم من استدام على الغياب، بل إنه في كثير من الجلسات البرلمانية، ترفع لأجل عدم اكتمال النصاب القانوني، وسجلت إحدى الجلسات غيابا كاملا لأعضائه باستثناء الرئيس، حسب ما ظهر لنا من الفيديو.
الدور السلبي الذي اداه مجلس نواب الشعب في ملفات عديدة، خصوصا الاستحقاقات استكمال المسار الثوري، والحلول الكفيلة بالنهوض بالمناطق المهمّشة، جعل نسب الناخبين تتقلص الى اقل من نصف، المدلون بأصواتهم في الانتخابات البلدية الأخيرة.
وأعتقد أن هذه النسبة ستبقى على حالها، اذا لم يقع تزوير على حسابها المتخلّفين عن الموعد الانتخابي، وأقصد بهم الذين سجلوا أسماءهم في مكاتب الهيئة، لكنهم عدلوا عن التصويت لأسباب مختلفة، فلم يذهبوا إلى مكاتب الاقتراع، وهذا وارد في ظل تدخلات الدول الغربية وخصوصا فرنسا، التي لها مصالح بتونس منحها إيّاها بورقيبة في معاهدة الاستقلال الداخلي، التي امضاها مع الرئيس الفرنسي آنذاك مانديس فرانس، تلك المصالح التي لم تحققها خلال 75 سنة من الاستعمار العسكري، وتخشى عليها اليوم من صعود شخصيات مناهضة للغرب.
فعلى المستوى البرلماني، أعتقد أن حركة النهضة لن تحصل على أكثر مما حصلت عليه في الدورتين السابقتين، بعدما شهدت تراجعا عما حصلت عليه في الدورة الفائتة وفي الانتخابات البلدية الأخيرة، بل لعلها ستكون محرومة من مقاعد أخرى في هذه الدّورة، ستخسرها بفعل سلبية أدائها الفائت، وعدم وفائها حتى بثوابتها في الاصلاح الداخلي وخارجيا في القضية الفلسطينية، وهي من ضمن من عرقل قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني، وغض الطرف عن عمليات التطبيع التي شهدتها البلاد، تحت عنوان السياحة الدينية لليهود، فسمحت بدخولهم الجوازات سفر صهيونية، زيادة على بقاء باب التطبيع مفتوحا ومتاحا بالعنوان الثقافي، وحتى لا ننسى فإن بورقيبة نفسه، هو من أسس هذا المسار التطبيعي مع الكيان الصهيوني.
أخطاء جوهرية وقعت فيها حركة النهضة، قد تكون مدفوعة إليها بحكم اتفاق مسبق، قد يكون ابرم مع رئيسها في بريطانيا، قبل أن يعود إلى تونس، زيادة على توريط نفسها في التمشي مع بقايا تجمّعي النظام البائد، بإقرار حقوق المثلية الجنسية، والمساواة في الميراث بين الذكر والأنثى، خلافا للدين الاسلامي الذي اقرّه الدستور الجديد للبلاد، وهذا ما جعل عناصر من الحركة تقرر مغادرتها، بعد الاحتجاج على تلك المواقف دون الحصول على أجوبة مقنعة.
من حسن حظ حركة النهضة في هذه الدّورة الانتخابية 2019، هذا التشتت والتعدد في القوائم الانتخابية، مما سيجعلها في البرلمانية تحصد اكبر نسبة، بحسب وحدة منتسبيها وتوجّههم لقائمة واحدة، مقارنة ببقية القوائم، لكنها لن تكون بالعدد الذي حصلت عليه من قبل اطلاقا، مهما كان حجم ما ستحصده ماكينتها الانتخابية، وسوف تعجز هذه المرة، على الحصول على ما تؤهله من أصوات، بسبب إخلال ممثليها بتعهداتهم السابقة، وسلبيتهم في التعامل مع الملفات المصيرية، كالتشغيل والتعليم والصحة والأمن، ولا يمكننا أن نغفل عن التّململ الذي حصل من أعضاء مجلس الشورى للحركة، حيث تغيب عن اجتماعه ثلث الاعضاء، مع الاحتجاجات التي أطلقها عدد منهم، أمثال عبد اللطيف المكي الذي وجّه رسالة قوية إلى الشيخ راشد، عبر له فيها على عدم رضاه بتغيير رؤساء القوائم، المزمع تقديمها للانتخابات البرلمانية، فان صدى تلك الاعتراضات سيكون لها أثر سلبي على نسبة أنصار الحركة، وعلى النتائج المؤمّلة لها.
اما على المستوى الرئاسي، فان التردد في تقديم مرشح الحركة، والاعلان عنه في آخر الامر، جعل المتابعين يرونه بعين الريبة، خصوصا بعد ان أسندت الحركة يوسف الشاهد، ووقفت معه ضد عزم القوى السياسية الأخرى تغييره، وهذا ما اعتمده المتابعون على اساس انه سيكون حصان النهضة في السباق الرئاسي، لكن تغير الموقف دعا الى تقديم الشيخ عبد الفتاح مورو للرئاسية، بدل الشيخ راشد الذي لا أشك أبدا انه يطمح اليها، ويريد أن يختم حياته بها، ولكن خشيته من الهزيمة في المنافسة، جعله يقترح زميله في تاسيس الحركة بدلا عنه، وذهب هو الى ترشيح نفسه على رأس قائمة حركة النهضة لدائرة تونس 1 ، ولا استطيع ان أجزم أن حظوظه في الفوز مشكوك فيها، الا انني أعتقد أنه ارتكب خطأ جوهريا بالترشح، وكان من الأفضل له أن يحفظ مكانته في صلب الحركة، فلا يجازف بها في دائرة ليست في متناوله تقريبا، ويبدو أن هوى الكرسي جعله لا يبصر اين يضع قدميه.
اذا رئاسة البرلمان استهوت شيخ الحركة الأول، لأنه لن يرضى بان يكون نائبا فقط في البرلمان، ولا رئيس كتلة حركته، بل ان هدفه هو كرسي رئاسة البرلمان، فهل سيجد فيه ما يحقق حلمه في الإمساك بزمام السلطة في تونس؟ وهل سيكون ظلم رفيقه الشيخ مورو بإقصائه عن البرلمان وهو في قرارة نفسه لا يريده أن ينجح في الانتخابات الرئاسية، وللذكرى فإن الشيخ مورو في أول انتخاب للمجلس التأسيسي، كان مستبعدا من الحركة، وتقدم مستقلا لكنه لم ينجح، فهل تكون العملية ازاحة بدهاء عمرو بن العاص؟ أم هي مناورة أخرى يخفي الشيخ راشد أوراقها الى حين؟
من حق كل من يحلم بقيادة البلاد، وان يترشح للانتخابات، اذا كان لديه برنامج واقعي وجدّي، بإمكانه أن ينقذ تونس من حالة التدهور الغير مسبوق، التي وجدت نفسها فيها، ولم تكن من قبل بهذا الحجم الخطير، أمّا أن يترشح أي من شخصيات البلاد، بعامل رصيده النضالي، وهو يكاد يلقيه وراء ظهره، متنصلا من التزاماته المبدئية، فإن ذلك سيزيد من تعقيد أوضاعنا الداخلية والخارجية.
اما بقية المترشحين، فباستثناء اربعة منهم، لا يوجد في بقيتهم، سوى العمالة لأمريكا وفرنسا، والتذيل للامارات والسعودية، فهل سيحكم الغرب فينا مرة أخرى بأحكامه تزويرا، ويستدرج الشعب على قلة وعيه، فيمضي الى جلاديه مرة أخرى، وتنتهي حكاية ثورة اجهز عليها أهلها في مهدها؟ أم أن هناك إرادة وعناية إلهية ما، ستكون في الموعد، لتحفظ تونس من شر ما حاكه عملاء أهلها المتصدرين للمشهد السياسي؟
Tags الانتخابات الرئاسية 2019 محمد الرصافي المقداد
Check Also
الردّ على جرائم الكيان قادم لا محالة…بقلم محمد الرصافي المقداد
لم نعهد على ايران أن تخلف وعدا قطعته على نفسها أيّا كانت قيمته، السياسية أو …