سجل لنا التاريخ حياة رجل فريد في شخصه، متفوق في أدائه، بحيث لا مجال للمقارنة بينه وبين أحد غيره ما دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن لم يصب هذه الحقيقة الجلية، عليه أن يراجع نفسه ليصحح خطأه، لأنه لم يظلم هذا الرجل فقط بغبن حقوقه، وتقديم وتفضيل من لا يضاهونه في شيء عليه، وإنما انخرط في مسار التحريف الذي أعلن بهت تلك الفضائل والخصائص.
بين مُقَدَّسيْنِ بدأت حياة هذا الرجل العظيم، عِظَمَ ما قدمه بيقين لربّه ورسوله ودينه، حياة مفعمة بالتقوى والخير، مليئة بالحركة والأداء والتضحية، فما بين يوم من أيام الله، ولد هذا الوليّ في جوف البيت العتيق (الكعبة)(1)، وما بين يوم آخر من أيام الله كانت خاتمته، على النحو الذي سعى إليه سعيا حثيثا، ارتضاه الله تعالى لعباده الصالحين، شهيدا مظلوما في محراب مسجد الكوفة، مضرّجا بدمائه، مغدورا من أشقى الآخرين، في فجر ليلة مباركة من ليالي القران، مرجّحة في أن تكون هي ليلة القدر العظيمة.
كان سباقا في كل شيء، فلم يجرؤ أحد على اقتحام وجهة توجّه إليها، أو سلك ميدانا اختاره، وميادينه كلها لا يطيقها غيره، ومن تتلمذ على يدي أفضل خلق الله ليله ونهاره، فقد نال حظا عظيما من مختلف العلوم والمعارف الإلهية، استهلّ حياته في أطهر مكان، ليكون ذلك علامة فارقة دالّة، على أنه مولود ميّزه خالقه عن غيره بتلك الآية الباهرة، ثمّ كلأه بالرعاية والعناية منفرِدا بهما عن غيره، فهو ربيب الوحي(2) وسليل بيت اختاره الله ليصطفي منه أخاه سيد الأنبياء ويختاره من بعده سيد الأوصياء.
لم يكن اسمه سوى اشتقاق من اسم الله العليّ، ولم تأتي تسميته صدفة أو من فراغ، وكان لذلك علاقة بنفسه التوأم، النبي الخاتم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي سماه عليّا، تيمّنا باسمه تعالى، ولا أخال ذلك اجتهادا، وإنّما هي إرهاصات وحي، بدأت إشاراته منذ ذلك التاريخ، لتتكامل في النهاية وتعلن للعالمين بأنّ عليّا مولى كل مؤمن ومؤمنة.
في 13 من شهر رجب الأصبّ، شهر الله المحرّم المفرد، قد اقترن تاريخ ولادته المباركة، بتاريخ البعثة النبوية في 27 منه، فشكّل التاريخان محوريّة الإسلام في بعثته وبلاغه، وجوهريّته في صيانته وحفظه وأدائه، والتقاء النبوّة بالإمامة في إطار تبليغي، من اجل بناء المجتمع الإسلامي الأمثل، فيه دلالة على أنهما قد شكّلا عماد نشر الدين الخاتم، وبقائه متواصلا عبر هذه الولاية العظيمة.
إن من تربّى على يدي أفضل خلق الله، لم يكن ليحيد عن آدابه قيد أنملة، فقد قال أمير المؤمنين بهذا الشأن:(وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة. وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره، ويكنفني إلى فراشه، ويمسني جسده ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشئ ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل، ولقد قرن الله به صلى الله عليه وآله من لدن أن كان فطيما، أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره، ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بِحِرَاء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام، غير رسول الله صلى الله عليه وآله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة…)(3)
لم يدّخر عليّ عليه السلام جهدا في سبيل إعلاء كلمة الله، أمام جحافل الشرك واليهود وفلول النفاق، خاض فيها معارك شرسة، ألقى بنفسه في غمراتها، لم ترهبه كثرة عدوّ ولا شُهرته، ولا استخفّ خلال المعارك التي خاضها بقلّته، فكان يدور فيها كأنّه رحى تطحن صناديد الفرسان، أو كما وصفوه عجاجة ريح صرصر، مجندلا أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم بضربات وتْرٍ، لم يجهز فيها على جريح، ولا لاحق فارّا منه، وهي لعمري سجيّة، لا تكون إلّا فيمن وطّن نفسه على مكارم الأخلاق، تعلّمها من نفسه التوأم، حبيب ربّ العالمين صلى الله عليه وآله وسلم.
إن سألتم من رسم اسمه في بدْرٍ، وأُحُدٍ، وحنينٍ، والخندق ( الأحزاب)، وخيبر، من صنع فيها النصر، وحسم نتائجها بمفرده، لم يجد أهل الحقّ مندوحة من القول معترفين، بأنه واحد فقط لم يجُد تاريخ الإسلام بمثله، وهو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، ففي بدر قاسم بقية المسلمين قتلى المشركين(4)، وفي أُحد جاد بنفسه دفاعا عن النبي صلى الله عليه وآله فيما فرّ غيره، ولم يثبت معه سوى بضعة رجال، وفي حنين ابتُلِي المسلمون بالعُجب بكثرتهم، فهُزِموا وفرّ أغلبهم، بينما ثبت عليٌّ مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصنعا معا نصرا كبيرا، وقتل علي بمفرده أربعين رجلا من صناديد هوازن، من بينهم قائدهم أبو جرول(5) وفي الأحزاب كفى الله المؤمنين القتال بعليّ عليه السلام(6)، عندما اقتحم عمرو بن ودّ الباهلي الخندق، في شجاعة وتحدّ منه للمسلمين، وهو الذي يُرعب ذكر اسمه من تناهت أسمعاهم له وكان معدودا فارس العرب، لم يبارزه أحد إلّا قتله، فبرز له عليّ عليه السلام، فلم يلبث يسيرا حتى أمكنه الله منه فقتله(7)، وانتكست به راية الأحزاب، أما خيبر فقد فتح الله على يديه أعظم حصونها، بعدما امتنع عن حملات سبقته وكان مُرْمَدا، وقتل على بابه قائد اليهود مرحب، وقلع باب الحصن بيديه الشريفتين، ليدخله المسلمون منتصرين غانمين.
لم يكن أحد ليساوره شك في شخص علي عليه السلام، مقاما وأفضلية وتفوّقا، لو بقي المسلمون الأوائل أوفياء لوصايا النبي صلى الله عليه وآله، في التمسّك به وبأهل بيته عليهم السلام، من ذي الحجة سنة وحديث الثقلين ونصّه: (إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي)(8) كاف لمن ألقى السّمع وهو شهيد، ومن لم يكتفي به، أوقفته خطبة النبي يوم الغدير في 18 من ذي الحجة سنة 10 هجرية وقد نعى فيها نفسه، وفيها صرّح بولاية الإمام علي عليه السلام على المسلمين من بعده، وقد كان صرّح بولايته مرارا وتكرارا قبل تلك الحادثة الختامية، إعدادا للناس لقبول الأمر الإلهي: (إنّ عليّا مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن بعدي) (9)
وإلى جانب مكانته العسكرية وما قدّمه فيها، فإن له مكانة علمية فقهية وقضائية، تميّز فيها عن غيره، فكان شخصيّة فريدة، بما حباها الله من اصطفاء، انتماء للبيت النبويّ عرقا وتربية ومصاهرة، خصّه الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم بسيّدة نساء العالمين فكانت رفيقة دربه حياة من أمّنه عليها بأمر الله تعالى،(10) بينما رُفضت مصاهرة غيره بأنّ الله لم يُنزِل في أمرها شيء.. (11)
فاق أمير المؤمنين عليه السلام جيله نباهة وسرعة فهم، ولم يكن أحد يقول سلوني قبل أن تفقدوني (12) غيره، ومن كان معلّمه خاتم الأنبياء سيد المرسلين، فقد حاز جميع المكارم المعنوية، وفي هذا قال الإمام علي عليه السلام: (لقد علمني رسول الله ألف باب يفتح كل باب ألف باب.) (13)
لأجل ذلك التحصيل الكبير، والمبلغ العلمي الذي حازه الإمام علي عليه السلام، جاءت إشارة ودلالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليه بقوله: ( أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن اراد العلم فليأت الباب)(14) ومع ذلك فإن من تنكّب عن صراط علي عليه السلام ونهجه، رضي بأن يَعتبِر مجهولي الحال والإسم، كأبي هريرة وغيره باب رواية عن النبي صلى الله عليه وآله، وهو كما اعترف من أخذ عنه، من الذين لا يقرؤون ولا يكتبون، وكان فوق ذلك ملازما لليهودي كعب الأحبار، فأي عقل هذا الذي أباح لهم انحرافا كالذي وقع فيه هؤلاء الأتباع؟
أمّا فيما أتيحت له فرصة الحكم وكان كارها لها لتأخّرها عليه، وتردّي أوضاع الأمّة بسبب سوء سياسة من سبقه، فقد كان حازما غير متسامح بحق من حقوق الله، مما دفع الطامعين للإلتحاق بطليق النبي المستولي على الشام فرارا من حقّ عليّ عليه السلام لعدم مقدرتهم على تحمّله، وقد قال في مسألة عدله بين الناس مقالة شهيرة، لو وجدت معتبِرا: (والله لو أعطيت الاقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن اعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعلي ولنعيم يفنى ولذة لا تبقى، نعوذ بالله من سبات العقل، وقبح الله الزلل وبه نستعين.)(15)
وليّ من أولياء الله الكمّل بهذه الخصائص والكمالات، تغبنه الأمة حقّه، ثم تجترئ عليه بمختلف صنوف النكران والخذلان، وفي الأخير يتمّ اغتياله في بيت الله، وعند محرابه وفي شهره المحرّم، ليفسح المجال للطلقاء وابنائهم، ليركبوا ظهور الأمّة بالحيف والظلم والعدوان، وإن أخطأ الأوائل في تقديره، فمن الواجب اليوم أن لا يخطأ المعاصرون بحقّه وقد كُشِف مستور المؤامرة، وبانت خيوطها الواهية، لذلك أقول لهذه الأمّة المنكوبة في صفوتها – وكلامي موجّه خصيصا لمن تنكّب عن نهج علي أمير المؤمنين – أنتم ونحن معكم مدعوّون إلى مراجعة ما بين أيدينا من تراث لتنقيته من الشوائب التي علقت به، بإزالتها نستطيع أن نبصر الحقيقة بجلاء، ودون أن يغالطنا فيها الكذّابون والمزيفون للحقائق، وما أكثرهم، جعلنا الله وإياكم ممن والى عليّا مولى المؤمنين حقّا، وعظّم الله أجور كل الموالين بذكرى ليلة استشهاده، اللهم أحينا حياة علي وأمتنا على مات عليه شهداء بفضلك ومنّك وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
المراجع
1 – مروج الذهب المسعودي ج2 ص2/ الفصول المهمّة ابن صباغ المالكي ص16/ تذكرة خواصّ الأمة سبط ابن الجوزي ص7/
2 –المستدرك على الصحيحين الحاكم النيسابوري ح6463/ تاريخ الطبري ج 2ص57/ البداية والنهاية ابن كثير ج 3ص34
3 – نهج البلاغة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ج2ص157
4 – دلائل النبوة البيهقي ج3ص124/ المناقب ابن شهراشوب ج3ص120
5 – تاريخ اليعقوبي ج2ص63/ المغازي الواقدي ج2ص902
6 – الدرّ المنثور السيوطي تفسير سورة الأحزاب ج5ص192/ تاريخ مدينة دمشق ابن عساكر ج 42ص 360
7 – المغازي الواقدي ج1 ص 471/ دلائل النبوة البيهقي ج3ص438و439
8 – حديث الثقلين أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل علي بن ابي طالب ج7ص122ح2408/ سنن الترمذي ابواب المناقب باب مناقب أهل بيت النبي ج6ص124ح3786/ مسند أحمد بن حنبل مسند أبي سعيد الخدري ج17ص211ح 11131 ….وغيرها من المصادر.
9 – سنن الترمذي أبواب المناقب باب مناقب علي بن أبي طالب ج6ص78ح3712/ مسند أحمد أول مسند البصريين حديث عمران بن حصين ج33ص154ح19928
10 – شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد المعتزلي ج 9ص193/ذخائر العقبى محب الدين الطبري ص169/ مناقب الخوارزمي ص205و206/
11 – مستدرك الحاكم الميسابوري ج2ص 167/ أسد الغابة ابن الاثير ج5ص520/ كنز العمال المتقي الهندي ج15ص199و286/ طبقات ابن سعد ج8ص11
12 – نهج البلاغة تصحيح صبحي الصالح الخطبة 189ص280/ الاستيعاب ابن عبد البر ج 3 ص1107 / ذخائر العقبى محب الدين الطبري ج 1 ص 399 و400/ تاريخ دمشق ابن عساكرج 27 ص 100 وج 42 ص 398/ أسد الغابة ابن الثير ج3ص597
13 – بحار الأنوار المجلسي ج26 ص29/ الاختصاص الشيخ المفيد ص283
14 – المستدرك على الصحيحن الحاكم النيسابوري ج3ص126/ الإستيعاب ابن عبد البرّ ج3ص1102/ والترمذي بلفظ مدينة الحكمة سنن الترمذي ج5ص637
15 – نهج البلاغة الامام علي بن ابي طالب ج2ص218