كان الكثيرون ممن كبرت في عقولهم أمريكا وسياساتها العدوانية، يعتقدون أن خروج القوات الأمريكية من شرق الفرات، يعتبر من المستحيلات التي لا يمكن أن تحصل الا برغبة أمريكية محضة، لا تخضع لتأثير عامل من العوامل يفرض على ادارتها، لذلك كان اعتقادهم بأن بقاءها على المناطق التي احتلتها بذريعة حماية الأكراد، سيدوم زمنا طويلا.
من جانب آخر، يبدو الموقف الكردي الذي ظهر من (قسد)، خلال فترة دخول القوات الامريكية المعادية لسوريا حكومة وارضا وشعبا، متواطئ مع تلك القوات، وقد عبر أغلب ممثلي التيارات السياسية الكردية، عن موافقتهم ورضاهم بوجود تلك القوات الغازية بينهم، فلم يقابلوها بأدنى مقاومة تذكر، وفي اعتقادهم أنها جاءت لغرض حمايتهم، فمهّدوا لها طريق الانتشار ولبّوا طلباتها، وهي لعمري خيانة عظمى بحق الوطن السوري.
انتشرت القوات الامريكية كما هو معروف، منذ شهر اكتوبر 2015، بأعداد صغيرة، ثم تتالت زيادتها الى أو صلت الى 2000 عسكري، بكافة اسلحتهم واعتدتهم، وتمركزوا في القواعد والنقاط التالية: (مطار رميلان/ قاعدة عين العرب (كوباني)/ المبروكة/ مطار روباريا/ تل بيدر/ تل ابيض) هذا التواجد والانتشار كان مطروحا من طرف جون بولتن توسعته ليصل الى 50.000 عسكري.
وغير خاف على المتابعين للشأن العسكري في منطقة الشرق الأوسط، أن الاهداف الامريكية الغير معلنة من هذا التواجد، هو أساسا تنشئة قواعد عسكرية لحماية الكيان الصهيوني من جهة، وتهديد ايران الاسلامية من جهة اخرى، وأيضا تفتيت وحدة الأراضي السورية، بمساندة الاكراد على تأسيس قوات عسكرية خاصة بهم، بإمكانها أن تتصدى للقوات النظامية السورية، في حال اندلاع مواجهة بينهما.
لقد كان دخول القوات الامريكية الى شرق الفرات السوري، بعنوان التحالف الدولي الذي ضم 68 دولة لمحاربة داعش، وداعش كما يعلم الجميع، جماعة ارهابية وهابية، تكونت من طرف المخابرات الامريكية نفسها، والتحالف نفسه كانت مهمّته الابقاء على داعش وليس القضاء عليها، ومن قضى عليها فعليا هي ارادة العراق وسوريا بمساعدة فعلية وحقيقة من ايران وروسيا.
اذا ما الهدف من التواجد العسكري الامريكي بسوريا؟
يهدف التواجد الامريكي في الشمال السوري الى غايات متعددة تسعى الادارة الامريكية للوصول اليها، لعلّ أهمّها منع ايران من انشاء خط برّي متصل بسوريا عبر الاراضي العراقية يصل الى البحر الابيض المتوسط ولبنان، يكون أساسا خط امداد لقوى المقاومة ، كما يهدف أيضا الى محاولة فرض معادلة للنفوذ الروسي المتنامي في سوريا بعد القاعدة البحرية الروسية بطرطوس، والقاعدة الجوية باللاذقية، تعزيز التحالف الاستراتيجي بينها وبين القوات الكردية (قسد)، ومساعدة الاكراد على تنفيذ مخططهم الانفصالي الأوّلي، في شكل إدارة محلّية، تتعامل فيدراليا مع الحكومة المركزية الشرعية، ثم يذهب زعماء الاكراد الى الانفصال الكامل. ويبحث التواجد العسكري الامريكي من ضمن خططه أيضا، امكانية اقامة قاعدة جوية في المناطق الكردية، قد تكون بديلا لقاعدة (انجرليك) التركية، في حال وقوع ازمة بين تركيا وامريكا، تصبح فيه القاعدة التركية، محل طلب استعادة من الحكومة التركية، بوقف عقد استغلالها من القوات الامريكية.
الموقف الأخير الذي صرح به الرئيس الامريكي، بسحب قواته من سوريا يبدو مفاجئا، ويأتي معاكسا تماما، للاستراتيجية الامريكية، ونواياها الواضحة المعالم في البقاء هناك، من أجل العمل على اعاقة استعادة القوات السورية لكامل اراضيها، بالحفاظ على تلك المناطق، التي يتواجد فيها ما سمّي بالجيش الحرّ، ( وانما هو عبد لأعداء سوريا)، وقوات قسد التي تحسب ايضا على المعارضة خارج السيطرة.
انقلاب الموازين لصالح من؟
اخلاء التواجد العسكري الأمريكي في شرق الفرات، قد يكون فخّا أمريكا، يسعى للإيقاع بأردوغان – رغم أنه حليفها – لكي يعود بهزيمة نكراء من شرق الفرات، من حدود احلامه العثمانية، الى أحلامه المعقولة، فهو قد أصبح مزعجا للجميع الغرب والعرب على حدّ سواء.
العملية العسكرية التي بدأها الجيش التركي في هذا الشهر تحت اسم (نبع السلام) تهدف الى احتلال حزام عازل من الاراضي السورية الواقعة تحت سيطرة القوات الكردية (قسد) بعمق 30 كلم، لابعاد التهديد الكردي، المتمثل في حزب العمال الكردستاني، عن الحدود التركية الجنوبية من الشمال السوري، وتوطين ما يقارب الثلاثة ملايين سوري، نزح منهم الى تركيا في بداية المؤامرة قسرا، وفرّ منهم بعد ذلك من فرّ، توقّيا من المعارك الدائرة حينها بين الجيش السوري واعداء وطنه.
التوغل التركي الجديد، جاء متزامنا مع انسحاب القوات الامريكية، من الاراضي المستهدفة من اردوغان وحكومته، كأنما هنالك اتفاق قد أبرم بين الطرفين – الامريكي والتركي- بعد الفشل الذريع الذي مني به مشروعهما الارهابي، المتمثل في تفتيت قوى العراق وسوريا بواسطة داعش والنصرة، من أجل ابقاء المنطقة مسيطرا عليها، وفي خدمة مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي ترعاه أمريكا وحلفاءها وعملاءها في المنطقة العربية، ويسمح للكيان الصهيوني بالتمدد في جميع الاتجاهات، ليكون المشرف والراعي الوحيد للمصالح الأمريكية فيها.
المهمّة المناطة بتركيا أو بأمريكا، سيّان فهما عضوان في حلف الناتو، هي تهريب بقية ارهابيي داعش، لأنّ مهمتهم انتهت في سوريا، وستبدأ حتما في منطقة عربية اخرى، على الارجح ان تكون ليبيا أو اليمن أو تعود من جديد الى العراق حسب الفرصة المتاحة، ولا يحول دونها سوى مدى وعي الشعب العراقي.
ليس مهمّا التطرّق الى التنديدات الصادرة من هذه الدولة أو تلك، أو من هذا الاتحاد أو تلك الجامعة، فالجميع شهود سلبيون ليس بمقدورهم فعل شيء، لكن المهمّ بالنسبة لنا كمسلمين، ان لا نسكت على انتهاك دولة – تعتبر نفسها مسلمة – لأراضي دولة جارة، وتشريد عشرات الآلاف من مواطنيها، وتعريض قسم منهم للقتل المحقق، جراء القصف المدفعي والجوّي، وهذا ما لا يسمح به دين ولا عرف ولا انسانية، ما يجب أن يتذكره المهللون للتوغل التركي، أن تاريخ تركيا اسود بجرائم الحرب قديما وحديثا، والانتهاكات الصارخة والابادة العرقية التي ارتكبتها قواتها بحق الارمن مثلا، باقية وصمة عار على جبينها، وتتكرر هذه النعرة اليوم في اطماع السلطان العثماني الجديد، في نفط شرق الفرات الذي هرّب منه الارهابيون الى تركيا خلال احتلالهم للمنطقة، وبيع للحكومة التركية بأسعار بخسة.
يبدو أن هناك مشروع حرب تهيئ له امريكا، بين العرب والاتراك، وهو بلا شك ان نجحت في اشعال فتيله، فسيخدم حتما الكيان الصهيوني، وينفّس عنه ما يتهدده من محور المقاومة، فهل، لأن أي بندقية اسلامية تصوّب نحو هدف آخر غير الكيان الصهيوني، هي بندقية منحرفة عن هدفها، فمتى سيعي المسلمون وخصوصا العرب والاتراك، ويميزوا بين الصديق والعدوّ؟