صدرت رواية «فرانكشتاين» للكاتبة الإنكليزية ماري آشلي في النصف الأول من القرن التاسع عشر. تتحدث الرواية عن العالم الشاب فكتور فرانكشتاين الذي قام بصناعة مخلوق من بقايا الأموات، وبث فيه الحياة.
لكن هذا المخلوق يتحول إلى وحش ذكي يقتل وليم شقيق فيكتور، ويلصق التهمة بالمربية جوستين، ثم يقتل إليزابيث حبيبة فكتور وزوجته، ويقتل كليرفال صديق صانعه، لينتهي بقتل الصانع نفسه، والاختفاء في ثلوج القطب الشمالي.
مع أن الرواية لم تُشر إلى المخلوق باسم فرانكشتاين، بل سمته «المخلوق» «الوحش» أو «المسخ» إلا أن الاقتباسات المسرحية والسينمائية الكثيرة لهذه الرواية صممت على إلصاق اسم فرانكشتاين بالوحش، وحولته إلى رمز للشر المطلق، يُستثنى من ذلك بعض أفلام الصور المتحركة التي صورته ككائن ساذج غير قادر على التعامل مع البشر بسلاسة.
استعَدُت رواية فرانكشتاين وأنا أتابع لقاءات الفصائل الفلسطينية في القاهرة، والتي ترفع شعار «إحياء» منظمة التحرير الفلسطينية، وهو الأمر الذي تؤيده سلطة رام الله من خلال انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني التي ستجري داخل الأراضي المحتلة وفي الشتات.
تبدو الأمور للوهلة الأولى وكأن القيادة الفلسطينية بشقيها الضفاوي والغزاوي، أدركت عقم خلافاتها وخياراتها السياسية والميدانية منذ عام 1994 وحتى اليوم، وأنها تسعى لطرح خيار جديد من خلال «إحياء» منظمة التحرير الفلسطينية وإعطاء دور لفلسطينيي الشتات في العملية السياسية الدائرة، ما يدعم موقفاً أكثر صلابة يمكن أن تتخذه القيادة الفلسطينية «المتصالحة» بعد الانتخابات.
لكن هذا الانطباع لا يتجاوز كونه وهماً وكذبة يتم تسويقها على العرب والفلسطينيين، والهدف منها إطلاق يد القيادة «المتصالحة» المنتخبة في تصفية ما تبقى من قضية فلسطين.
إذا عدنا إلى لحظة تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1964، سنجد أن هدف تحرير فلسطين كان يعني تحرير الأراضي التي احتلتها العصابات الصهيونية عام 1948 وأنشأت عليها كيانها الغاصب.
بعد هزيمة 1967 وانتقال قيادة المنظمة إلى يد الفصائل الفلسطينية المقاتلة برئاسة حركة فتح، تم التراجع تدريجياً عن الهدف الأساسي للمنظمة وصولاً إلى البرنامج المرحلي 1974، ولاحقاً اتفاقيات أوسلو والاعتراف بوجود الكيان الصهيوني، ما يعني إسقاط الهدف الرئيسي الذي نشأت المنظمة لتحقيقه.
رغم ذلك استمرت العلاقات شبه السرية بين المنظمة والجماهير الفلسطينية في الداخل الفلسطيني، وظهرت شخصيات فلسطينية جمعت بين المناصب في الإدارات الصهيونية والعلاقة القوية مع منظمة التحرير الفلسطينية واشتهر من هؤلاء عزمي بشارة وأحمد الطيبي وغيرهم.
الانتخابات «التصالحية» القادمة تُسقِط تماماً تمثيل الداخل الفلسطيني (التزاما باتفاقيات السلام) وبالتالي تشكل ترسيخاً لقرار الاعتراف بالكيان الصهيوني، بل تُحضّر فصائل فلسطينية جديدة مثل حماس لتصبح جزءاً من هذا الاعتراف.
من هو الفلسطيني؟.. هذا هو السؤال الذي تطرحه الانتخابات الفلسطينية القادمة.
إذا تمت الانتخابات فالسؤال هو: من هو فلسطيني الشتات الذي يحق له المشاركة في الانتخابات؟
الحل الذي يبدو سحرياً يكمن في اعتماد بطاقة وكالة الغوث (الأونروا) لتحديد فلسطينيي الخارج، لكن هذا الحل ينطوي على خطورة كبيرة؛ فبمجرد مشاركة فلسطينيي الشتات في الانتخابات واختيارهم لممثليهم، يصبحون تابعين لدولة قائمة (دولة فلسطين) وبالتالي يفقدون صفتهم كلاجئين ويتحولون إلى رعايا فلسطينيين في دول أخرى.
بالنسبة لحق العودة، فإن حصولهم على جواز السفر الفلسطيني يؤهلهم للعودة إلى مناطق السلطة الفلسطينية وبالتالي يتحقق الشرط الثاني لفقدانهم صفة اللجوء. هذا المشروع ليس جديداً، بل سبق الاتفاق عليه بين محمود عباس ورئيس حزب العمل هيرتسوغ برعاية أميركية، لكن فوز الليكود بالانتخابات أحبط المشروع ووضعه في الأدراج.
تشتمل بنود اتفاق المصالحة الفلسطينية على حق الفلسطينيين باستخدام جميع أشكال المقاومة لاسترداد حقوقهم.. طبعاً لا يندرج الكفاح المسلح ضمن أشكال المقاومة، أما الحقوق فهي تلك التي وردت في اتفاقيات أوسلو. ولا أدل على ذلك من غياب الفصائل الفلسطينية عن المشاركة في كل المواجهات التي تخاض ضد العدو، سواء في سورية أو العراق أو اليمن، وأخذها موقفاً محايداً لا ينسجم مع الطبيعة الثورية التي تدعيها، ناهيك عن توقف العمليات العسكرية ضد العدو منذ سنوات، باستثناء مواجهات فردية أخذ أصحابها على عاتقهم بث الدم في عروق هذا الصراع.
ما يقوله لنا اجتماع القاهرة أن لدينا مقاومة، ومقاومين، لكننا لا نجد عدواً نقاومه!
المقصود بإحياء منظمة التحرير إذاً، ليس استعادة تلك المنظمة التي أُنشأت عام 1964 ولكن تلك المنظمة التي قادت متوالية التنازلات منذ عام 1968 وحتى اليوم. الدور المنوط بهذا «المخلوق» الذي سيتم إحياؤه هو إغلاق صفحة الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 بشكل نهائي، وتغيير طبيعة العلاقة مع العدو من كونها صراعاً تناحرياً، إلى خلاف سياسي جغرافي يمكن حله داخل الغرف المغلقة تحت شعار «من دون شروط مسبقة».
أما المهمة الثانية فهي إنهاء قضية اللاجئين وإغلاق ملفها، سواء بتحويل اللاجئين إلى رعايا لدولة فلسطين «الافتراضية» أو بتوطينهم في دول الشتات؛ وأخيراً، إغلاق ملف المقاومة المسلحة إلى الأبد واستبداله بمفهوم المقاومة السلمية اللاعنفية. وبعد أن يُتِم «المخلوق» العائد من الموت مهمته، تنتفي الحاجة لبقائه، فيعود إلى تابوته، ولا يبقى منه سوى أمجاد كاذبة على صفحات كتب التاريخ في مدارس الدولة العتيدة.
عندما يُبعث الموتى قبل أوانهم، يكونون مثل فرانكشتاين أو «الزومبي» رموزاً للشر والخراب. أما القيامة فهي لحظة محاسبة يُثاب فيها الصالح ويُعاقب المسيء. ما تحتاجه فلسطين هو قيامة تلفظ كل القيادات التي تفننت في صنع الهزائم، قيامة منظمة تحرير عربية فلسطينية، تمتلك مشروعاً نضالياً تحررياً حقيقياً وواضحاً، يحارب العدو ومشاريعه على كل أرض عربية وليس على أرض فلسطين وحدها.
لقد علمتنا دول معينة خلال عقد «الربيع العربي» أن هزيمة العدو لا تتحقق إلا بوحدة المناضلين، والتشخيص الدقيق للعدو، والاستعداد للتضحية، وضرب العدو في مقتله الذي تمثله مصالحه الاقتصادية.
أما نضال المصالحات واقتسام السلطات والصفقات فلن ينتج عنه سوى المزيد من الخيبات والهزائم.
*كاتب من الأردن