فلنبحث عن هذا الشيء في مكانٍ آخر يتعلّق بالإنسان نفسه، وليس في الأشياء والحلفاء، فالسر يكمن في الإنسان اليمني المقاوم للعدوان.
ورد في “صحيح مسلم” أنَّ رسول الله (ص) لما نزلت آية: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}، قال: “جاءَ أهلُ اليمنِ، همْ أرقُ أفئدةً. الإيمانُ يمانٍ، والفقهُ يمانٍ، والحكمةُ يمانيةُ”. وفي مسند الإمام أحمد أنَّ رسول الله رفع رأسه إلى السماء، وقال: “أتاكم أهل اليمن كقطع السحابِ، خير أهل الأرض”. وفي “صحيح البخاري”، دعا الرسول إلى أن تحل البركة في الشام واليمن: “اللهّم باركْ لنا في شامِنا، وباركْ لنا في يمنِنا”، في جمعٍ يوحي بوجود سر يربط بينهما.
هذه الأحاديث النبويّة وغيرها في اليمن أرضاً وشعباً لم يفهمها حكام الجزيرة العربية من آل سعود وآل الشيخ عندما التقى الاستبداد السياسي بالتطرف الديني في صحراء نجد، حيث {هُناكَ الزلازلُ والفتنُ وبها يطلعُ قرنُ الشيطانِ}، كما جاء في “صحيح البخاري” عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – عن رسول الله. وقد أدى عدم فهم هذه الأحاديث النبوية من قبل ثنائي الاستبداد والتطرف في بلاد العرب إلى عدم فهم أشياء أخرى في اليمن، فقادهم ذلك إلى حماقة العدوان العسكري على اليمن قبل أكثر من 6 سنوات.
العدوان السعودي على اليمن بدأ فجر الخميس في 26 آذار/مارس 2015، مدعوماً بتحالفٍ عربي أميركي واسع، وبإمكانيات مالية وعسكرية وتقنية هائلة. بعد 4 أيام من العدوان، كتبت مقالاً بعنوان “الأمة المهزومة تبحث عن نصر وهمي في اليمن”. ومما جاء فيه: “هذه الأمة المهزومة تبحث عن نصر وهمي في مكان آخر غير مكان المعركة الحقيقي، ولن ينفعها هذا الوهم، ولن يفيدها هذا النصر… أمّا اليمن، فسيخرج من هذه الحرب والأزمة عاجلاً أو آجلاً، ولا خيار له سوى العودة إلى ما يجمع اليمنيين ويوحّدهم… الإسلام والعروبة والوطن…”.
وبعد عامٍ ونصف العام من بدء العدوان تقريباً، وتعقيباً على مذبحة عزاء الصالة الكبرى الوحشية التي نفذها العدوان السعودي، كتبت مقالاً بعنوان “مذبحة اليمن.. الصمت جريمة”، أكدت فيه الفكرة نفسها، مُطالباً نظام آل سعود بتوجيه ترسانة أسلحته الضخمة إلى العدو الحقيقي للأمة ممثلاً بالكيان الصهيوني.
وبعد 5 سنوات على العدوان، كتبت مقالاً بعنوان “الانتصار على الطريقة الفلسطينية”، جاء فيه: “ما زال نظام آل سعود الحاكم في جزيرة العرب يواري هزيمته في اليمن… باحثاً عن صورة النصر المفقود بين حُطام المباني المدمرة وأشلاء الأطفال المُبعثرة”. إن عجز نظام آل سعود عن تحقيق النصر الذي وعد به خلال أيام أو أسابيع من بدء العدوان بعد دخوله عامه السابع، يُشير إلى أنَّ في اليمن شيئاً لا يفهمه آل سعود.
الشيء الذي لا يفهمه آل سعود في اليمن لا يتعلّق بالأشياء المادية بالطبع، كالمال والسلاح وغيرهما، فامتلاك اليمن لهما لا يُقارن بما لدى دولة آل سعود من مالٍ فائض وسلاح زائد، ولا يتعلّق بالقدرة على حشد الحلفاء من السادة العجم الذين يُدفع لهم المال جزية أو العالة العرب الذين يُدفع لهم المال استرقاقاً وارتزاقاً، فقدرات اليمن على التحالف محدودة بأحرار الأمة من المتمردين على الهيمنة الصهيو-أميركية.
فلنبحث عن هذا الشيء في مكانٍ آخر يتعلّق بالإنسان نفسه، وليس في الأشياء والحلفاء، فالسر يكمن في الإنسان اليمني المقاوم للعدوان. هذا الإنسان بناء متراكم من عبق التاريخ، وفي التاريخ تكمن الإجابة. لنأخذ مثالاً من كتاب “تاريخ اليمن مقبرة الغزاة” للباحث اليمني عبد الله بن عامر، وهو بحث تاريخي يوضح كيف ابتكر اليمنيون الظروف في مواجهتهم كل الغزاة عبر التاريخ منذ القدم.
هذه المواجهة تؤكد أنَّ اليمن لم يُفتح لأي غازٍ إلا ليُقبر مع أحلامه في ترابه، والكتاب يبيّن أنَّ اليمنيين لم يُعطوا الشرعية لأي حاكم يمني إلا عبر التصدي للغازي ومقاومة الاحتلال. في المقابل، فإنهم ينزعون الشرعية عن الحاكم الذي يتعاون مع الغزاة ويخضع للعدوان.
وبعد دراسة تاريخ اليمن منذ القرن العشرين قبل الميلاد وحتى القرن العشرين للميلاد، يتضح أنَّ الغزاة كانوا في أوج قوتهم العسكرية، بينما كان اليمن في أسوأ حالاته عند الغزو. رغم ذلك، خرج الغزاة أضعف واليمنيون أقوى، وكان اليمني أمام هذه الغزوات مقاوماً عنيداً ومُقاتلاً صلباً لا يعرف الهزيمة، وإن عرفها يوماً، فهي ليست إلا كبوة، سرعان ما ينهض منها ويتجاوزها.
لهذا، ظلَّ اليمني يصارع قوى الغزو من دون كلل أو ملل حتى تحقق النصر على العدوان، ما أكسبه صفات الإنسان الحر العزيز الأبي؛ هذا الإنسان الذي يقف مع قضايا أمته، مهما كان الثمن الذي سيدفعه غالياً. ولذلك، كان موقف أحرار اليمن من قضية الأمة المركزية فلسطين واضحاً، من خلال خطاب حركة “أنصار الله” التي تقود مقاومة العدوان السعودي على اليمن، وهو خطاب سياسي واضح في اعتبار فلسطين قضية الأمة المركزية، واعتبار “إسرائيل” عدو الأمة الرئيسي، ورفض حالة الولاء للعدو عبر التطبيع والسلام معه، ورفع شعار “الموت لأميركا وإسرائيل”.
صفات الأحرار التي تعمّقت عبر الزمن في الشعب اليمني من خلال مقاومته للغزاة، لم يفهمها آل سعود لافتقارهم إليها، وفاقد الشيء لا يفهمه، ولا سيّما عندما يكون فقدان الشيء بمحض الإرادة، فآل سعود تنازلوا عن صفات الأحرار طوعاً، عندما قايضوا وصولهم إلى الحكم واستمرارهم فيه بحريتهم وكرامتهم، فرضوا بأن يكونوا مع الخوالف تابعين لمن اعتقدوا أنَّ بيده مقاليد الأمور من القوى الكبرى، فخضعوا لإرادة بريطانيا العُظمى، ثم لهيمنة الولايات المتحدة الأميركية، ودخلوا بيت الطاعة الأميركي باختيارهم، ودفعوا الجزية لسيد البيت الأبيض، مُقابل حمايتهم من “البعبع” الذي صنعه لهم في صورة عدو داخلي هو الشعب العربي الأصيل الأبي في الجزيرة العربية، أو في صورة عدو خارجي وهمي هو الجمهورية الإسلامية في إيران.
وقد كانوا بذلك مثالاً حياً للعبودية الطوعية التي تحدّث عنها الفلاسفة، ومثالاً لتماهي المقهور مع صفات المتسلط أو اقتداء المغلوب بسلوك الغالب، فمارسوا الاستعلاء الممارس عليهم من قاهرهم وغالبهم على من اعتقدوا واهمين أنّه أضعف منهم، فشنّوا العدوان على اليمن لإخضاع شعبه وإدخاله إلى بيت الطاعة السعودي، وهو ما يعني ضمناً الدخول إلى بيت الطاعة الأميركي، وتلقائياً الدخول إلى حظيرة الدول المُنبطحة للأميركيين والمُطبّعة مع الصهاينة، ليكون الجميع في العبودية سواء؛ لا فضل في ذلك لعربي على عربي إلا في زاوية الانبطاح وسرعة التطبيع.
الشيء الذي لم يفهمه آل سعود في اليمن هو إرادة الحياة الحرة الكريمة التي سكنت أرواح اليمنيين وكل الشعوب الحرة الكريمة، وهو شوق الحياة العزيزة الأبيّة التي عمرت نفوس اليمنيين وكل الشعوب العزيزة الأبية، وهو لهيب حياة الرجولة والمروءة التي تشعل قلوب اليمنيين والشعوب المتمردة الثائرة على الطغيان تمرداً وثورةً… إنها صفات يفتقدها آل سعود، فضلاً عن أنهم لا يفهمونها، لطول عهدهم بالتبعية للأجنبي، فطال عليهم الأمد، وماتت نخوتهم وأنفتهم… بخلاف شعبهم العربي الأبي الأصيل في الجزيرة العربية وكل الشعوب العربية العزيزة المتعطشة إلى الحرية، والتي ستنتصر حتماً على نزعة العبودية المستحكمة بآل سعود والحكام السائرين على دربهم، كما قال الشاعر التونسي الثائر أبو القاسم الشابي:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
حينئذ، بعد هزيمة العدوان، سيجد اليمنيون طريقهم إلى الوحدة والاستقلال والازدهار، عندما يلتقون على ما يجمعهم على أرضية الإسلام والعروبة والوطن، وقبل كلّ ذلك إرادة الحياة؛ الشيء الذي لم يفهمه آل سعود.