الحرب على التطبيع قضية أساسية حين تصبح داعمة للفعل المقاوم من كل جوانبه وليست بديلاً عنه.. ففي الكثير من البلاد العربية هناك حرب ضد التطبيع لم تبرح حالة العويل.. وأحياناً تكون تعويضاً بموجبه يتحقق «النضال» بالمراسلة.. دكاكين ترقص عند كل مناسبة لتسجيل حضور ثم تنتهي القصّة ليأتي نتنياهو وخلفه مؤسسة ضخمة لجعل التطبيع واقعاً تزكّيه الصّورة.
تكمن المفارقة هنا في أنّ محاربة التطبيع تقف عند قضية هنا وهناك تتعلق بالتطبيع الرياضي أو الفنّي أو ما شابه ذلك، وهذا في الحقيقة أمر مهمّ وأساس ولكنه لن يكون كذلك إلاّ إذا كان موصولاً ببرنامج متكامل ورؤية شاملة.. مثلاً هناك حماس منقطع النظير في فتح دكاكين يصهل فيها بعض محترفي «النضال» بالمراسلة ضدّ التطبيع لكنهم في الواقع يطبّعون مع المشروع الصهيوني في كبرى مشاريعه في المنطقة حين ينخرطون في الحرب على سورية مثلاً، أو يسقطون في السياسة الطائفية التي اكتسبت لها مهارات في مختبرات صهيونية بعناوين أعرابية.. هؤلاء مطبّعون وإن صهلوا ليل نهار ضد التطبيع الجزئي.. يتعيّن أن تكون محاربة التطبيع شاملة وكاملة وغير سطحية أو جزئية.. فمن كان يصفّق «لسقوط» سورية لن يكون مناهضاً للتطبيع.. فالمقاطعة هي أيضاً للمشروع الصهيوني في السياسات.. ظلّ المطلوب منك ألا تصافح صهيونيّاً، أما أن يُقال لا تُصافح يداً صافحت محتلاً سيدخلنا في متتالية هندسية ساذجة.. ذلك لأنّ بعض «الإخوان» حين حكموا: صافحوا القادة الأمريكيين والأوروبيين الذين يصافحون ليل نهار نتنياهو.. هناك مناهضة للتطبيع تلك التي يسير عليها «الإخوان» خلف أردوغان الذي صافح كل القادة الصهاينة ولكن لا أحد يحتجّ من «الإخوان» على «الإخوان».. هل سيكون الاحتجاج ضدّ التطبيع طقساً موسميّاً عابراً أم المطلوب أن يكون جزءاً من عمل مقاوم متكامل الأركان في الرؤية والعمل؟!.
أي جدوى من محاربة التطبيع التكتيكي وتعزيز التطبيع الاستراتيجي.. إلى متى تقف هذه المسرحية التي يقودها «زعاطيط» النّضال بالمراسلة؟ إنها مهزلة تجعل مخرجات كلّ هذا الصهيل منذ عشرات السنين لا تنتج سوى الملل وتربّي العقل العربي على مزيد من الازدواجية والنّفاق والمزايدات الفارغة.. غياب الموقف الاستراتيجي- حيث معظم المواقف- تجد في التكتيك ملاذاً آمناً.. لنختبر موقف هؤلاء إزاء اليمن والعديد من الدول الأخرى.. هل أظهر هؤلاء- وهم من يحتكرون تنظيم الخرجات رسمياً، باعتبار كل من خرج دونهم يصبح خارج القانون، وهو الشكل غير المباشر للتآمر وتجريم غيرهم- أجل، هل أظهر هؤلاء تضامناً حقيقياً مع قضايا لها صلة بالموضوع؟ أبداً.. فكواليسهم تفيض بالتقول ضد المقاومة ورموزها.. لعن الله المنافقين.. محاربة التطبيع التكتيكي حين لا ترتبط بمحاربة التطبيع الاستراتيجي تصبح هدراً للوقت وعبثية يراد منها تسجيل حضور غير منتج في ساحات العويل.. هناك حناجر اكتسبت لها عضلات من فرط الصراخ الآمن في مواسم الصّخب وبرسم النضال بالمراسلة، لكنها لا تتكامل مع سواعد المقاومين في الميادين تلك التي تفوق فيها وثبة لمقاوم كل هذا العويل..أن تناهض التطبيع الاستراتيجي هي أن يكون لك موقف من القضايا التي تفجّرت في المنطقة لأجل إضعاف الكيان العربي وصولاً إلى تصفية القضية الفلسطينية.. التجزيئ هنا دجل.. فالذي يتآمر على دمشق لن يكون مناهضاً للتطبيع الاستراتيجي.
من يتصدون للتطبيع التكتيكي، من الداعمين، أمثال عزمي بشارة وأردوغان و«الائتلافات السورية»، وبعضهم راهن على «النصرة»، وهم على دين النّضال المزدوج.. عند الاقتضاء قد نذكّر بما قالوه في العلن وأكثره في السّر ضدّ محور المقاومة.. من هؤلاء من سبّ رموز المقاومة في مسيرة القدس.. استولوا على كلّ مخارج ومداخل المؤسسات ليحتكروا مسرحية النضال بالمراسلة.. وكان أحرى حين أمسكوا بزمام الحكومات أن يُظهروا تطوراً في الموقف من التطبيع لا أن يستمروا على هذا الخداع كما لو أنهم معارضة شعبية وليسوا حكومات.
إن الغالبية العظمى غارقة في التطبيع إلى أخمص القدمين فيما تأكل من الطعام وما تشاهد من البرامج وفيما تمارسه من سياسات.. هل سيظلّ قدرنا أن نجّزئ في مشروع المقاومة فنحارب التطبيع في الجبنة و«الكازوز» وننخرط في التطبيع في المشاريع الاستراتيجية التي تربك المعادلة؟.
بعض الهيئات المناهضة للتطبيع هي دكاكين تحتكر- وفق معادلة التمكين والتآمر- هذه الورقة، وتحارب أي صوت يناهض التطبيع التكتيكي والاستراتيجي معاً، تحارب أشكال التضامن التي لا تنطوي تحت أجندتها.. وهذا أمر آن الأوان لتجاوزه.
* كاتب من المغرب