تحويل التحديات إلى فرص من علامات النجاح، ولذلك فإنَّ تحويل تحدي الاختلاف إلى فرصة للائتلاف من أهم علامات النجاح، وهذا بالضبط ما أبدعه الإمام الثائر آية الله الخميني – رحمه الله – قبل أربعين عاماً، عندما حوّل الخلاف بين السُنّة والشيعة في يوم مولد النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – إلى فرصة للوفاق بين مكوّنات الأمة الإسلامية، فأعلن عن أسبوع الوحدة الإسلامية ما بين التاريخين المُختلف عليهما من (12) ربيع الأول إلى (17) ربيع الأول، وأهم فعالياته مؤتمر الوحدة الإسلامية، الذي ينظمه سنوياً المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، ويُعقد هذا العام تحت شعار (السلام وتجنّب الفُرقة والصراع في العالم الإسلامي)، والهدف من هذا الأسبوع والمؤتمر هو استثمار ذكرى المولد النبوي المُباركة في إيجاد أرضية مشتركة للاتحاد والتضامن في العالم الإسلامي، وتبادل الأفكار بين العلماء والباحثين لتقارب المسلمين الفكري، والالتقاء على أصول الدين الجامعة، وقضايا الأمة المركزية، ومصالح المسلمين المشتركة.
أسبوع الوحدة الإسلامية يقوم على أساس ديني باعتبار الأمة الإسلامية أمة واحدة، لها نبي ودين واحد، وحدة منصوص عليها في القرآن الكريم “إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ”، وفي السُنّة النبوية كما ورد في صحيفة المدينة عن المسلمين ” إنهم أمة واحدة من دون الناس”، وهذه الأمة لها اسم توقيفي من عند الله تعالى كورثة عقيدة التوحيد على لسان إبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام – في سورة البقرة: “رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ”، والتسمية واضحة في سورة الحج “هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ” ، ولذلك اسم (الأمة الإسلامية) هو الأصل الجامع لكل المسلمين منذ تكوين المجتمع الإسلامي الأول في عهد النبوة والخلافة الراشدة، واستمر شعور المسلمين بأنهم أمة واحدة سواء جمعتهم الخلافة كنظام سياسي موحد للأمة، أم فرّقتهم الدول ككيانات سياسية مُفرِقة للأمة، وتواصل إحساس المسلمين بهويتهم الجمعية المتميزة كأمة رغم موجات الغزو الخارجي ودوامات الصراع الداخلي.
إحساس المسلمين بهويتهم كأمة واحدة متميزة مغروس في الوجدان الشعبي الإسلامي، وموثق في التراث الثقافي الإسلامي، ولكنه تعرّض لتيارات تفكيكية من داخل الأمة وخارجها، ارتدت مفاهيمها ثياباً بألوان الشعوبية والقومية والوطنية والمذهبية، ولكن أكثرها تأثيراً ما أُلبس ثوبٌ ديني، فاتخذ طابع القداسة، واحتكر لقب الشرف، وهو مفهوم (أهل السُنّة والجماعة)، ظاهره فيه الوحدة، وباطنه ممزوج بالفُرقة، ذلك بأنَّ المفهوم تبلور تاريخياً في سياقٍ غير مُوّحِدٍ للأمة الإسلامية، وفي إطار أقرب للتفكيك منه للتجميع. فالأصل أنَّ الإسلام قد طرح مشروعاً سياسياً وحدوياً، يقوم على مفهوم الأمة التي تجمعها رابطة العقيدة، فأقام الإسلام دولة الأمة الواحدة، بقيادة الرسول – صلى الله عليه وسلم – والخلفاء الراشدين من بعده، فكانت الأمة هي كل المسلمين، وهي جماعة المسلمين، حتى إذا ما بدأت الفتنة الكبرى انقسمت الأمة الواحدة إلى جماعات متفرّقة ومتصارعة، للفوز بقوة نفوذ السلطة وشرعية تمثيل الإسلام.
وعندما استقر أمر السلطة والإسلام عند الدولة الأموية في (عام الجماعة) أُطلق على كل المسلمين الراضين بحكم بني أُميَّة المُتغلّب طوعاً أو كرهاً اسم (الجماعة)، وعلى الرافضين لحكم الأمر الواقع سلماً أو حرباً اسم الخارجين على الجماعة، وأشهرهم الشيعة والخوارج، وبعد دهرٍ من الزمان أُضيف اسم (السُنَّة) إلى (الجماعة)؛ لتصبح (أهل السُنّة والجماعة) تمييزاً لهم عن الفرق والمذاهب الأخرى، في عصرٍ كثُرت فيه الصراعات السياسية والفكرية والفقهية بين الفرق والمذاهب، والتبست فيه السُنّة بالبدعة، والصواب بالخطأ، والاعتدال بالتطرف. وبالمقدار الذي حمل فيه المصطلح مضمون الحفاظ على نهج الكتاب وهدي السُنّة. حمل معه سوطاً مرفوعاً على ظهور المجتهدين المبدعين من علماء الأمة الرافضين لاحتكار تفسير الإسلام. وحمل معه سيفاً مُسلّطاً على رقاب المُخالفين المعارضين للاستحواذ بالسلطة والثروة من نخبة الحكام.
ولأن المفهوم ارتبط بعقيدة الفرقة الناجية فقد تنافست الفرق للفوز باللقب وإخراج غيرها منه، ولا زالت المنافسة قائمة إلى يومنا هذا، وما حدث في مؤتمري جروزني والكويت خير دليل على ذلك. فقد عُقد مؤتمر جروزني عاصمة دولة الشيشان في شهر اغسطس عام 2016م بزعامة علماء الأزهر روّاد المدرسة الأشعرية الوسطية تحت عنوان (من هم أهل السُنّة والجماعة؟) بعد أنْ كاد التيار السلفي أن يسرق اللقب منهم، فقرر العلماء المؤتمرون أنَّ أهل السُنّة والجماعة هم: الأشاعرة والماتريدية، وأهل الحديث المفوّضة في الاعتقاد، وأهل المذاهب الأربعة… في الفقه، وأهل التصوّف الصافي…” وأجمعوا على إخراج من سموّهم “السلفية التكفيرية” بجميع فروعها من دائرة أهل السُنّة والجماعة، ولكنهم لم يُخرجوا أحداً من ملة الإسلام.
وبعد ثلاثة أشهر في نفس العام رد عليهم التيار السلفي بعقد مؤتمر الكويت في شهر نوفمبر، بحضور من أسموهم “علماء أهل السُنّة والجماعة” تحت عنوان (المفهوم الصحيح لأهل السُنّة والجماعة)، في محاولة لاسترداد اللقب من المدرسة الأزهرية الأشعرية وتيارها في العالم الإسلامي، فقرروا أنَّ أهل السُنّة والجماعة هم: “المتبعون للكتاب والسُنّة… ومن ألقابهم: أهل الحديث، وأهل الأثر، والفرقة الناجية، والطائفة المنصورة… وأهل الحق، والسلفيون…”، وجميعها أسماء لمسمّى واحد – عندهم – هم المدرسة الوهابية وتيارها السلفي في العالم الإسلامي، وما عداهم من الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة والشيعة والصوفية… ليسوا من أهل السُنّة والجماعة، وبعضهم ليسوا من ملة الإسلام وفق رؤيتهم.
خُلاصة الأمر يجب إعادة قراءة مفهوم (أهل السُنّة والجماعة)، قراءة توحيدية تحافظ على أصول عقيدة التوحيد ودين الإسلام، وقراءة وحدوية تحافظ على وحدة الأمة الإسلامية وتضامن المسلمين شعوباً وقوميات ومذاهب، وقراءة تنويرية تتجاوز إرث الصراعات الشعوبية والمذهبية نحو البحث عن القواسم المشتركة والكلمة سواء والأصول الموّحدِة، وقراءة مستقبلية تنظر بعين الأمة الطامحة إلى مواجهة التحدي الغربي الحديث، وتحقيق النهضة والاستقلال وتحرير فلسطين… وإذا تعذّر ذلك كله فلا فائدة من التمسك بلقب تاريخي غير مُقدّس من وضع البشر، بل يجب التمسك وتعزيز اللقب المُقدس من عند الله تعالى وهو (الأمة الإسلامية)، الجامع لكل أهل القبلة المتنافسين على لقب أهل السُنّة والجماعة، وغيرهم المُبعدين عن اللقب.