مُجدداً، أطلّت علينا القدس، بأطفالها وشبابها ونسائها وشيوخها، عنواناً لكرامتنا الوطنية والقومية المهدورة والمستباحة. شاهدناهم وكأنهم للتو يتعرفون على الأرض والتراب والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة وكل نقطة تراب على أرض فلسطين.
مشهد يُعيدنا إلى فلسطين التي أطلت علينا من غزة في الأمس القريب عبر بنايات كانت شامخة ثم أخذت تتهاوى ونحن نشفق على من فيها من أهلها الذين ستأكلهم النيران. وخيار الناس فيها محددٌ: الموت احتراقاً داخلها او محاولة تخطي حاجز النار داخل العمارة لتلقى قنابل القتل خارجها.
بعد دقائق من دوي القصف وتهاوي العمارات بالانفجارات وزخات الرصاص والقذائف وهي تتفجر في كل الامكنة، وتكاد تستشعر لسعات نيرانها وأنت في مكتبك. لكن ملكاتك جميعاً، العينان والاذنان والحواس الأخرى المستنفرة الآن، اليقظة تماماً والتي لا تعرف ماذا يمكنك ان تفعل في مواجهة قوافل الموت التي تضرب العمارات فتهوي بأهلها، والبيوت فتختفي لتترك حفرة هي اشبه بقبر لا يفتأ يتمدد بينما تختفي أشباح من كانوا ملء البصر يتجاوزون بأحلامهم الابراج المحيطة، ثم تتهاوى مع العمارة التي دمرها الحقد الذي تتعاظم قدرته على إطلاق النيران جارفة الاحلام وغرف النوم وخزائن ثياب الصغار المكوية والمطوية في انتظار العيد.
لا يعرف الاسرائيليون إلا اطفالهم. يفترضون ان الفلسطينيين خاصة والعرب عموماً لا يعيشون طفولتهم بل يأخذهم الوجع الى حجارة الانتفاضة.
تتهاوى العمارات وكأنها من كرتون، لكن الاهل الذين فيها او من حولها يشمخون ويكادون يتسابقون الى إسناد اعمدتها وجدرانها حتى لا تقع على أهلها فتؤذيهم.
تتهاوى صورة جندي كرتوني أمام إرادة أولئك القابضين على جمر الصمود في أرضهم لكأنهم حسموا أمرهم. هم القضية وكل ما عداها هوامش. عشرات آلاف المصلين يتدفقون كالنهر الهادر إلى المسجد الأقصى. يجدون أنفسهم وحيدين في مواجهة آلة القمع الصهيونية المتوحشة. ربما لا يجدون نصيراً إلا بعض ضمير أوروبي (قبل حرب أوكرانيا) وعربي على مستوى الشارع لا الأنظمة.
لكأن الجواب يأتي مُدوياً للأنظمة والمشيخات والممالك العربية: إذا كان الإسرائيلي قد وجد ضالته عندكم، فإن ذلك لا يحجب حقيقة أننا هنا لا نقرر فقط مستقبل فلسطين ـ القضية، بل مستقبل كل الأمة. ومع غياب فلسطين عن أفق العمل العربي المشترك المتراجع بالأصل، تصبح فلسطين حرة أكثر وتصبح فلسطين هي الفلسطيني الذي يقاتل ويقاوم ويصمد ويُنازل ولا يتنازل، لكأنه يريد القول أنه هو المرجعية وهو من يقرر ويحاسب ولا يستطيع أحد أن يفاوض بإسمه.
نعم؛ لقد إنتهى زمن العتب والعتاب بين الفلسطيني والأنظمة الرسمية العربية المتهالكة، وذلك بعد 74 عاماً من الإرتهان البلا طائل والإنتظار البلا نتيجة..
لقد إنتظر الفلسطينيون طوال عقود من الزمن أن يأتي العرب إليهم، فكانت النتيجة أن إسرائيل صارت في كل قطر عربي من المحيط إلى الخليج وها هي طائراتها تدنس المطارات والأجواء العربية، فهل يكون مُستغرباً أن تسقط هذه الأنظمة من الوجدان الفلسطيني وهل لليأس إلا أن يجعل الفلسطيني أكثر ثقة بذاته ورهاناً على نفسه؟
وإذا كان من رهان على تغيير الأنظمة العربية وعلى إنتصار الشعوب العربية على جلاديها، فإن ذلك يبدأ من صمود الفلسطيني في أرضه ولا سيما في القدس عنوان القضية. لذلك نقول للفلسطينيين المحتشدين في ساحات وباحات المسجد الأقصى نحن نعتذر منكم لأننا لسنا قادرين جغرافياً على الوصول إليكم لكننا نشد على أياديكم ونقول لكم ثقوا أن هذا الصمت العربي المدوي وهذا الذل العربي الفاجر وهذا الإنبطاح العربي المخزي هو تحد إضافي إلى تحدي مقاومة العدو الإسرائيلي.
هذا هو التحدي؛ تحدي الذات وتحدي فلسطين؛ فكلما تأكد وجودكم في فلسطين سيتأكد وجود الأحرار العرب من حولكم، أما الأنظمة فستكتشف ولو بعد حين أنها بتطبيعها مع العدو ستجد هذا العدو يصادر مقدرات شعوبها ويلغي جيوشها فتصبح أسيرة هذا الكيان المغتصب وأطماعه التوسعية.. وعندها يحق للفلسطينيين القول أننا أصبحنا مطالبون بأن نحرركم نحن لا أن تحررونا أنتم لا سيما بعد أن عرفنا معنى التحرير ـ التطبيع على طريقة كل أنظمة الردة العربية.
إن إيماننا بأرضنا هو الضمانة الوحيدة وهذا التحدي سيبقى ماثلاً أمامنا صبحاً ومساءً.
لن ننهزم ولن نستكين ولن نغادر أرضنا وسندافع عن منازلنا في حي الشيخ جراح كما عن المسجد الأقصى وكل مقدساتنا.