إن التنوع والتعددية والاختلاف، هي من نواميس السماء، والطبيعة، والحياة الإنسانية، ومن مصادر غناها، وعظمتها وخيرها.
السماء التي خلقت البشر من نفس واحدة وجعلتهم شعوبا وقبائل ليتعارفوا، والتي شاءت أن يكونوا متشابهين في أشياء ومتنوعين في كل شيء تقريبا، دعت البشر إلى التعارف بمعناه العميق، بما يترتب عنه من إطلاع ومعرفة وتعاون وإقرار واعتراف وتساند وتكاتف وتعايش وعيش…
وكان التنوع والتعددية من بين الخصائص العبقرية والعظيمة للطبيعة وجمالها وقدرتها على التكامل والتكيف والاستجابة لمتطلبات الناس وحاجات الحياة.
الحياة البشرية قامت في أصلها السّوي وتطورها على التنوع والتعدد كخاصية نجدها في الجنس والنسب والثقافة والعرق واللون والخصائص والمعتقد والمكانة والسرديات والمقدرات والقدرات والتجارب والتعبيرات، ولا يوجد مجتمع إنساني خلى يوما من تنوع “ما” وتعددية “ما”.
في التجربة الإنسانية، كان التنوع والاختلاف مصدرا لإمكانيتين، الأولى، أن يكونا عنصر قوة وتعاون وإثراء وتكامل بناء تنسجم مع النواميس والاستثمار الملائم لها، وفي هذا الحالة كانت المجتمعات تترقى إنسانيا وثقافيا وعمليا، وتعرف معنى الاستقرار الإيجابي العميق والأمن الوجودي، وبلورة قيم إجماع ضامنة وثمينة في حياتها تورثها للقادمين وتحولها لرصيد في صفحات التجربة البشرية.
أما الإمكانية الثانية، فهي أن يكون التنوع والتعدد “وكر” لإنتاج التوترات والأزمات والمشاكل وعدم التوافق النفسي والثقافي والاجتماعي والمجتمعي والإنساني، في هذه الحالة يتم تحويله من ثروة إلى بلوى ومعضلة، ومن امتياز إلى مأزق. ومن توظيف خلاق لنزف وجودي سيء التأثير والمعنى، ومن فرصة إلى تهديدات للتنمية والاستقرار والسلام والأخلاقية الإنسانية، وقد كان للبشر في هذا الصدد تجارب مزرية.
***
دراسة علاقة التنوع والتعددية بمستويات الحياة الاجتماعية الكبرى عند المجتمعات، خصوصا علاقتها بالمواطنة، كقيمة مركزية وكثقافة وكهدف جماعي يتشكل كضرورة وكحاجة، ترتبط بقيم المساواة والعدالة والكفاءة ودروها في حياة الناس، تعطي المتأملين في الأمر نماذج تحليله هامة، وتطرح بقوة مسالة طريقة إدراك المجتمعات لتنوعها وتعددها وكيفية تعاملها معها.
فحص هذه العلاقة في المجتمعات العربية المعاصرة ينطوي على أهمية كبيرة وخاصة، نظرا لتأثيراتها العميقة في مختلف أوجه حياتها لاعتبارين على الاقل، الأول: ما تثيره عن دور العوامل الثقافية والسياسية والإيديولوجية السلبية التي تقف وراء سوء وعي الفاعلين السياسيين والاجتماعين عموما في تحديد الموقف من التنوع والتعددية.
والثاني: انها توفر فرصة لدراسة أسباب فشل المجتمعات المالكة لثروة التنوع والاختلاف، في استثمارها كي تبني نموذج إيجابي للحياة ولمجتمع يقوم على المواطنة.
من ناحية اخرى فإن مسألة التنوع والتعددية تحيل لمعاينة مفارقة متعبة، عندما نرى كيف نجحت المجتمعات الأهلية في بناء حالات عيش مشترك مثمر وإيجابي في متن الوضع القائم وفي هوامشه على أساس تنوعها، بينما تفشل الأنظمة والقوى السياسية وتعرقل معا، خيار إيجاد نموذج عام ملائم يعيش في خيره النسبي الجميع ويراكمون تجربتهم ويورثونها لمن يأتي خلفهم. ويطال هذا الأمر أيضا حتى القوى المدنية في صيغتها الجديدة المثيرة التي تتشكل في غير ما مجتمع عربي معاصر، والتي لها مطالب مجتمعية طويلة وعريضة، في حين تخفق في بناء حالة أو نموذج جاذب ومختلف عن مألوفات الموروث والسائد في كل شأن تقريبا بما في ذلك الخيارات القائمة على التنوع.
***
ظاهرة التنوع والتعدد كما تتجلى في المجتمعات العربية المعاصرة تطرح إشكاليات حقيقية، تتعلق بقوة وقيمة وثروة إيجابية، لكنها لا تنتج التوقعات المنتظرة منها، كصيغة عيش يستفيد منها الجميع، ويرتقون بها حضاريا وإنسانيا وأخلاقيا.
في المقابل نرى حالة تيه وتوتر لها اشكال متعددة لعرب يضيقون بأنفسهم ويضيقون بالآخرين ويضيقون بتنوعهم ويضيقون بالحياة نفسها وتضيق بهم، وهي حالة ينجو منها بشق الأنفس البعض “القليل” منهم!!
*كاتب وأستاذ جامعي من فلسطين. والنص كتب بمناسبة ندوة سيعقدها مركز “تموز للدراسات والتكوين على المواطنية” في جبيل –لبنان والجمعية العربية لعلم الاجتماع لدراسة مسألة التنوع والتعددية أيام 6-7 تموز- الجاري، برعاية من مؤسسة هانس زيدال الألمانية.