آمن راشد الغنوشي بفكرة الديمقراطية، وشرع يُحاجُّ في أن الإسلام لا يتناقض مع الديمقراطية. وهو من أبرز الشخصيات التي دعت إلى “الإسلام الديمقراطي”. ويعتبر أن “التيار الإسلامي الوسطي الديمقراطي، هو الأوسع والممثّل الحقيقي عما يُسَمّى الإسلام السياسي”.
قدَّم الغنوشي نفسه “إسلامياً ديمقراطياً” في البلد الوحيد الذي نجا من تداعيات ما وصف بـ”الربيع العربي” مقارنة بدول أخرى. إنها أكثر حركات الطيف السياسي الإسلامي تقدّميةً. تبنّت حركة النهضة استراتيجية قوامها اعتماد المنهج السلمي، عبر التغيير وآليات العمل الديمقراطي ورفض العنف، والسّعي لتسلّم السّلطة عبر اعتماد وسائل الضغط السلمية، والخطاب المعتدل، والعمل على حماية حقوق الإنسان. وطالبت ببناء مجتمع مدني، ودعت إلى انتهاج سياسة الحوار. وأدان الغنوشي العنف، واختار العمل من داخل النظام، مؤكداً العملية التدريجية للتحوّل الاجتماعي، والمشاركة السياسية.
يرى بعض أنصاره أن له فضلاً كبيراً في نجاح بقاء الحركة في السلطة طوال السنوات العشر الماضية، وتأمين الانتقال الديمقراطي في البلاد، بينما ينتقد آخرون سلطته على الحزب، وأبوّته له، الأمر الذي دفع عدداً من القيادات الحزبية، على غرار حمادي الجبالي ولطفي زيتون وعبد الحميد الجلاصي وزبير الشهودي، إلى الاستقالة. وكان من المفترض أن يُعقَد مؤتمر لحزب النهضة من أجل انتخاب قيادة للحزب في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2020، وهو العام الأخير لرئاسة الغنوشي، وأن تُنتخب فيه قيادة جديدة، لكن تم تأجيله إلى عام 2021، بسبب انتشار وباء كوفيد – 19 في البلاد.
شكّلت حركة “النهضة” جزءاً من كل البرلمانات ومعظم الحكومات منذ عام الثورة، 2011، إلاّ أن حضورها تراجع، وانتقل تمثيلها البرلماني من 89 نائباً عام 2011 إلى 53 (من أصل 217) في الانتخابات التشريعية عام 2019.
تمر حركة “النهضة” في أزمة. اعتبر بعض قيادات الحزب أن على الغنوشي أن يتنحّى عن القيادة، ويترك قيادة الحزب للشباب، ما دام يؤمن بالديمقراطية. أتت قرارات الرئيس التونسي قيس سعيد، في 25 يوليو/تموز، وقضت بتجميد أعمال البرلمان الذي يرأسه راشد الغنوشي لمدة 30 يوماً، وإقالة حليف “النهضة”، رئيس الحكومة هشام المشيشي، وتولّي سعيّد السلطة التنفيذية بنفسه، نتيجة أسباب تتعلّق بالأزمات المحيطة بتونس، فبدا كأنه يستهدف “النهضة”. اتهم الغنوشي في البداية الرئيسَ سعيد بالانقلاب على الدستور، ثم ما لبث أن تراجع، وقال إنه مستعدّ لأيّ تنازل إذا كان هناك عودة إلى الديمقراطية.
بدت “النهضة” ضعيفة، فهي كانت ممسكة بالوضع السياسي عندما مرت تونس في أزمة عام 2013. وبسبب اغتيالات سياسية طالت معارضين لها، خرجت من الحكم ودخلت في حوار وطني، بحيث جرى تشكيل حكومة تكنوقراط. شكّلت ائتلافاً مع حزب “نداء تونس” الليبرالي العلماني عام 2014، وتقرّبت من رئيسه الراحل الباجي قائد السبسي. مارست براغماتية اشتُهر بها الغنوشي. وفي انتخابات 2019، تحالفت مع حزب “قلب تونس” الذي يُلاحَق رئيسه نبيل القروي، في تُهم فساد وتبييض أموال، الأمر الذي أصاب منها مقتلاً. واتُّهِمَت مؤخراً بتلقّي أموال من الخارج، في إشارة إلى دولة قطر، واعتبرت الاتفاقات التجارية التي عُقدت بين تونس وتركيا مجحفةً في حقها، في إشارة إلى علاقة “النهضة” بتركيا والتفريط بمصالح تونس.
الأزمة الاقتصادية والتقصير السياسي
لم يكن الانتقال السياسي أمراً سهلاً بعد سقوط نظام ابن علي ودخول تونس أزمة اقتصادية سبقتها هجمات إرهابية، وزادتها سُوءاً جائحة كورونا. إهمال القطاعات المنتجة، وعدم الاهتمام بالتخطيط، تنموياً واقتصادياً، من جانب النخب السياسية التي تولّت السلطة، أدّيا إلى التدهور الذي حدث، والذي ألحق خسائر اقتصادية فادحة دفع ثمنها المواطن التونسي. ومع استمرار الجائحة وتدهور السياحة، بالإضافة إلى تراجع أداء الزراعة والصناعة، وارتفاع الأسعار، وتراجع الإيرادات الضريبية، أصبح الرهان على قرض من البنك الدولي، وهو الرابع، ضرورةً منعاً للانهيار. هل يمكن تحميل المسؤولية للحزب الأكبر في تونس، أي “النهضة”، من دون غيره؟ وهل يمكن الركون إلى فكرة أن ما يحدث هو “تحجيم للدور السياسي للحزب”؟
تأتي هذه الأسئلة بينما يمدّد الرئيس سعيد “الفترة الاستثنائية” لإقالة الحكومة وتجميد البرلمان والسيطرة الكاملة على الحكومة. وكان مجلس شورى حركة “النهضة” دعا إلى حوار وطني، وتعيين رئيس حكومة جديد، وأقرّ بضرورة القيام بمراجعات لسياسة الحركة المنتهَجة في السنوات الأخيرة، وتحمّل مسؤوليتها، واستعدادها للاعتذار عن الأخطاء المرتكَبة. اعتبرت الحركة أن موقفها هو “انحناء أمام العاصفة من أجل تجاوزها”، لكن سعيّد شدّد على أن “لا رجوع إلى الوراء”.
كان من المفترض أن يتم تقاسم السلطة السياسية بين مؤسستي الرئاسة والبرلمان، مع الفصل في النزاعات من جانب محكمة دستورية، بموجب الدستور لعام 2014.
لكن هذه المحكمة لم تنعقد أبداً بسبب خلافات بشأن التعيينات، ولأن سعيد رفض المصادقة على مشروع القانون الذي أقره البرلمان لإنشاء المحكمة. وتعكس هذه التوترات صدى الجدل السياسي الأوسع بشأن التعيينات الوزارية الرئيسية، والتي أدّت إلى طريق مسدود، في خضم الوباء.
هل ما يجري يشبه ما حدث في مصر عام 2013؟
الرئيس سعيد مدني، وليس عسكرياً. وإن كان مسؤولاً عن الأجهزة الأمنية كرئيس، فهو سيحتاج إلى الاعتماد على الجيش والشرطة لفرض انقلاب، ولا يزال موقف الجيش التونسي غير واضح، وهو يراقب.
يتنافس سعيد و”النهضة” في ما يتعلق بالمؤيدين أنفسهم، وهم من المحافظين والريفيين الشبّان. لا شك في أن هناك استياءً بسبب البطالة والوضع الاقتصادي، خلق حالة ناقمة لدى الناخبين، تلقّفها سعيد، وهو شن حملة في عام 2019 ضد الفساد، ولمصلحة شكل معيّن من الديمقراطية المباشِرة على المستوى المحلي، الأمر الذي اعتبر المنتقدون أنه يهدف إلى تجاوز الترتيبات الحالية لانتخاب النواب. أمّا تذرّعه بالمادة 80 من الدستور، فهو، برأي البعض، فشل في الحوار مع البرلمان ورئيسه راشد الغنوشي. ومع أنه تلقّى دعماً واسعَ النطاق من الشباب التونسي، بشأن الإعادة الانتخابية، إلاّ أن دعمه تراجع منذ ذلك الحين.
أمّا في الظرف الحالي فهو عوّم نفسه من خلال موقفه تجاه البرلمان، ووقوفه خلف المادة 80 من الدستور، ومحاربة الفساد، فاستعاد شعبيته. ويرى كثير من التونسيين أن سعيد “نظيف” الكف، وهو دعا إلى سلطات رئاسية أوسع للرئيس في نيسان/ أبريل 2021، وأثار موجات من الردود عندما قال، خلال خطاب ألقاه، إن الرئيس هو القائد الأعلى للقوات المسلّحة العسكرية والمدنية. أمّا “النهضة”، فهي إلى جانب فقدان بعض مؤيديها، تارة بسبب إهمالها مصالحها، وطوراً من شدة براغماتيتها في التحالفات، فإنها تشهد أزمة هوية في الداخل، وأزمة من أجل انتخاب قيادة جديدة. رب متسائل: هل تركت “النهضة” دورها كحركة إسلامية تقليدية لمصلحة أن تكون حزباً سياسياً أكثر تقليدية؟ هذه المرة تجنّبت حركة “النهضة” التصعيد مع سعيد، محاولةً تجنّب المواجهات في الشارع، وفي ذهنها ما حدث لـ”الإخوان” في مصر.
ذهبت حركة “النهضة” إلى الحكم الائتلافي الذي يجمع الإسلاميين والعلمانيين، فيصعب تصديق الادّعاء بأن الحركة تستأثر بالحكم والسلطة. هناك عدم قدرة على عزلها عن مكونات المجتمع المدني، فهي مكوّن اجتماعي سياسي له حيثيته. أمّا بالنسبة إلى المؤسسة العسكرية، فكانت تنأى بنفسها على الدوام منذ عهد بورقيبة عن التدخل في الشأن السياسي، بعكس المؤسسة العسكرية في مصر، والتي كانت قوة مؤثّرة على الدوام.
ارتكبت “النهضة” عدداً من الأخطاء، بحيث اندفعت إلى السّلطة من دون استعداد، ولم تستطع العمل بطريقة توافقية، وعجزت عن التحوّل إلى قوة وطنية حقيقية تعمل على التنمية، وتملك خططاً اقتصادية.
لا يمكن أن تُحكَم تونس، خلال هذه المرحلة، بمنطق النكايات، أو الاستئثار. والتوجّه نحو الحكم يجب أن يكون وفاقياً، بحيث يمكن أن يضمن التفاف معظم التونسيين حول حكومة لا ترتهن لأجندة حزبيّة معيّنة، بل تتوجّه نحو المصلحتين العامّة والوطنية، وخدمة الشعب، وإنقاذ البلاد من براثن الفقر والديون.
المصدر/ الميادين نت