خسرت إيران منذ أن بدأت مفاوضاتها سنة 2008، مع الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، زائد ألمانيا والإتحاد الأوروبي، كثيرا من الوقت في تطوير برنامجها النووي السّلمي، تعبيرا عن حسن نوياها تجاه المجتمع الدّولي، وأرست سلسلة المفاوضات على اتفاق يشمل تقليص نشاطاتها النووية مقابل رفع العقوبات الإقتصادية المفروضة عليها. المتتالية بخفض نسبة تخصيب اليورانيوم الى5% ووقف أنشطتها في مجال صناعة أجهزة الطرد المركزي والتخصيب. (1)
لكنه وبعد سلسة من المفاوضات الشاقة والطويلة القبل الأخيرة تواصلت 18 شهرا، وقع إبرام إتفاق، عُرِف باسم الإتفاق النووي الإيراني 5+1، (بتاريخ 14/7/2015)، جاء فيه تعهّد من جانب إيران بالحدّ طوعيا من أنشطتها النوويّة السّلميّة، والدبلوماسية الفرنسية وشقيقاتها الأوروبية لها قناعة، بأن إيران تخصب اليورانيوم حاليا، بمستويات تتوافق مع الاستعمال للأغراض المدنية (2) لكن شكوكها في إمكانية تطوير التخصيب تبقى مجرّدة من إثباتها على أرض الواقع وتبقى مجرّد شكوك لا دلالة عليها.
إنّ ما عبّر عنه الإمام الخامنئي بعد التوصّل إلى إتفاق الجانب الايراني المفاوض برئاسة وزير الخارجية محمد جواد ظريف، يؤكّد أن الطّرف المقابل يخفي وراءه أهدافا اخرى يريد الوصول اليها، فضلا عن تعطيل البرنامج النووي السلمي الإيراني، لذلك لم يكن مرتاحا ودعا شعبه إلى التريث في الأمر وعدم اظهار الفرح بما حققته دبلوماسية بلاده.
وعوض وفاء الدّول الموقعة بالتزاماتها وتعهداتها تجاه الاتفاق مع ايران قام الرئيس الامريكي ترامب الذي أخذ مكان أوباما بإعلان خروجه من جانب واحد من الافاق النووي، معتبرا اياه اتفاقا سيئا، وكان يطمح في بعد أن تستجيب إيران لنزواته بتعديل بنوده، وإدخال عناصر أخرى فيه، منها البرنامج الصاروخي البالستي، إيحاءً ودفعا من الجانب الصهيوني وحلفائه من الدّول العربية.
وبعد سقوط (دونالد ترامب) وخروجه ذليلا من رئاسة أمريكا، جاء خلفه (جو بايدن)، ليعبر عن أسفه من خروج سلفه من الاتفاق، واستعداده للرجوع إليه بشرط الرفع التدريجي للعقوبات، وهذا ما رفضته إيران واعتبرته غير نزيه، وأنّ من له حق الاشتراط هي إيران، وليس أمريكا المنسحبة دون موجب، وعلى ذلك جاء ردّ قائد الثورة الإسلامية بقوله: “أريد أن أقول كلمة واحدة، حول خطة العمل المشترك الشاملة (الاتفاق النووي)، وهي إننا سمعنا الكثير من الأقوال والوعود الجميلة، التي اُنتهكت على أرض الواقع، فلا جدوى من الكلام والوعود.. لكننا هذه المرة، نطلب التطبيق العملي للوعود فقط والوفاء بها، وإذا لمسنا ذلك في الجانب الآخر سنقوم بالعمل أيضًا”.(3)
إزاء هذا التسويف والتباطؤ من الجانبين الأوروبي والأمريكي، جاءت قرارات الحكومة الايرانية حاسمة بالخروج التدريجي من البروتوكول الطوعي، وتقييد مراقبة المواقع بالكاميرات بحجب تسجيلاتها عن الوكالة، فيما دعا الامام الخامنئي خبراء الطاقة النووية الى العودة مجددا للعمل بطاقة أكبر من سابقتها، ومن قدرة ايران على تخصيب اليورانيوم من 20%، اثبت الإيرانيون أنه بمقدورهم تخصيبه إلى 60%، وسيذهبون بحسب احتياجاتهم العلمية الى انتاجه أكثر نقاء من تلك النسب، وهي رسالة دبلوماسية قوية جدّا لأمريكا ودول الغرب مفادها أن عليهم أن يتصرفوا بسرعة قبل فوات الفرصة التي منحتها لهم إيران، ولم يستغلوها لحد اليوم، وكل تباطئ سيعقّد وضعهم في الملفّ.
وقد أفرط مندوب روسيا لدى المنظمات الدولية بفيينا (ميخائيل أوليانوف) بقوله إنّ إيران تذهب بعيدا للغاية بتخصيبها اليورانيوم بنسبة 60%، وقال أوليانوف، في حديث لصحيفة (كوميرسانت) نشر اليوم الأحد: “أود التذكير قبل كل شيء بأن الإيرانيين أبدوا صبرا ضخما بعد انسحاب الولايات المتحدة من الصفقة وإطلاقها سياسة الضغط القصوى، وهم واصلوا تطبيق كل التزاماتهم الخاصة بخطة العمل الشاملة المشتركة على مدار عام كامل، وهم كفوا عن القيام بذلك فقط، بعد محاولة إدارة ترامب فرض حظر نفطي، بعد ذلك بدأت طهران الرجوع عن مبادئ خطة العمل الشاملة المشتركة”.
وتابع: “نحن دائما امتنعنا عن توجيه انتقادات حادة إلى إيران، حيث فهمنا أنها تردّ بالتالي على سياسة الضغط القصوى الشنيعة، عادة استخدمنا كلمة أسف، عند تعليق رجوع طهران عن مبادئ الاتفاق النووي، لكن الآن تظهر مباعث للقلق.”
وأردف أوليونوف: “يبدو أن إيران تذهب إلى بعيد للغاية، ولأول مرة تقوم دولة غير نووية بتخصيب اليورانيوم بنسبة 60%، وإنتاج اليورانيوم بشكل المعدن، وكلما أسرعنا في التوصل إلى اتفاق حول إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة، كلما أسرعنا في إنهاء هذا الوضع”.(4)
وكانت ايران قد رفضت وجود العلم الأمريكي في قاعة المفاوضات وفي الفندق ولم تبدأ المفاوضات الا بعد أن تمّ رفعه، ودعوة الفريق الأمريكي الخروج من الفندق الى فندق آخر مجاور، وهذا لعمري فخر للدبلوماسية الإيرانية، يحسب لها في إطار الدفاع عن حقوقها أمام دولة مستكبرة تعتقد أن العالم خاضع لها وبإمكانها أن تتصرف كما يحلو لها.
ورغم تعابير الرئيس الأمريكي بايدن عن استعداد بلاده للعودة إلى الإتفاق النووي، بشرط الرفع التدريجي للعقوبات، فإن إيران تبدو متأنّية وأكثر ثباتا من أجل تحصيل حقوقها المكتسبة من وراء هذا الإتفاق والذي لم تحصل منها على شيء حتى الآن، لذلك فإنها ارتأت أن افضل أسلوب للوصول إلى مطالبها، التخلّي التدريجي عن البرتوكول الإضافي ومنه إلى التخلّي كلّية على الإتفاق برمّته، في صورة ما إذا لم يحكِّم الغربيون عقولهم، وينظروا أين تكمن مصالحهم، ولا يقيموا لعربدة الكيان الصهيوني، في تضخيم ادّعاءاته بسعي إيران لامتلاك سلاح نووي.
وإيران لو كان في برنامجها انتاج سلاح نووي لكانت توصّلت إلى ذلك طالما أن تمتلك القدرات والإمكانيات في ذلك، وأعداؤها يعلمون قبل غيرهم أنها لا تسعى الى ذلك لدافع شرعي يحرّم استعمال أي سلاح من اسلحة الدمار الشامل، طالما أنه سيفتك بمدنيين أبرياء، والعجب هنا كيف تتحكم دول مستكبرة في دول العالم بالتهديد النووي، فيكون امتلاك قدراته العسكرية حلالا عليهم حراما على غيرهم، وهنا يجب التنبّه بأن المسعى الغربي الأمريكي هدفه منع إيران من الوصول بأنشطتها السلمية، إلى تحقيق اكتفائها، في مجالات الطب والصيدلة والطاقة النووية، وهي مجالات بقيت حكرا على هذه الدّول، ينعمون بتفوقهم بها على بقية دول العالم، لذلك أقول أنه لا تنفع مفاوضات مع العدو إلا من موقف القوة، والقوة وحدها هي التي يحسب لها العدو حسابا.
المصادر
1 – التسلسل الزمني لمفاوضات الملف النووي الإيراني
https://www.aljazeera.net/encyclopedia/events/2015/4/6/
2 – فهم الإتفاق النووي مع إيران في عشر دقائق
3 – خامنئي: إيران ستعود إلى الالتزام بالاتفاق النووي إذا أوفت أطرافه بوعودها بشكل عملي
https://arabic.cnn.com/middle-east/article/2021/02/17/khamenei-iran-nuclear-deal-jcopa
4 – https://arabic.rt.com/world/1250715
روسيا: إيران تذهب إلى بعيد للغاية بتخصيبها اليورانيوم بنسبة 60%