لا يبتعد المشهد الحالي الذي تعيشه المناطق الفلسطينية عن ذلك الواقع الذي كانت تعايشه في مثل هذه الأيام، قبل 20 عاما، حين اندلعت “انتفاضة الأقصى”، بل إن الأوضاع الميدانية على الأرض، وخطوات الاحتلال والاستيطان المتصاعدة، تفوق ما كانت عليه سابقا، وهو ما ينذر في ظل حالة الوحدة الفلسطينية القائمة حاليا بانتفاضة جديدة تكون أشد من سابقاتها، للتصدي لخطط الاحتلال التوسعية.
وفي مثل هذا الوقت، من العام 2000، وتحديدا يوم 28 من شهر سبتمبر، اندلعت شرارة الانتفاضة الفلسطينية الثانية، التي عرفت باسم “انتفاضة الأقصى”، كرد فلسطيني شعبي على أعمال الاستيطان الإسرائيلية، ورفض حكومة الاحتلال وقتها برئاسة أيهود براك، تنفيذ بنود اتفاقيات السلام، وخضوعه لقوى اليمين المتطرف وقتها، وسماحه لرئيس الوزراء السابق أرئيل شارون بتنفيذ عملية اقتحام لباحات المسجد الأقصى، ضمن الخطط الإسرائيلية وقتها الرامية لتهويد المسجد.
فقد اندلعت شرارة “انتفاضة الأقصى” مع بداية زيارة شارون للمسجد، ففي داخل الأقصى اندلعت مواجهات شعبية حامية الوطيس، تصدى خلالها المقدسيون بأجسادهم العارية لجنود الاحتلال الذين أمطروهم بالرصاص، وأوقعوا في صفوفهم الإصابات، لم يكترث وقتها الفلسطينيون لقوة النار، وفي اليوم التالي للاقتحام، والذي صادف يوم الجمعة، عمت المناطق الفلسطينية حالة من الغضب الشديد، وتصدى المقدسيون لاقتحام الاحتلال لباحات الأقصى خلال صلاة ظهر الجمعة، فاندلعت مواجهات أكثر قوة، أسفرت عن سقوط ستة شهداء في باحات الأقصى، ومئات الإصابات، لتمتد بعدها شرارة الغضب لكافة مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، حين نزل السكان إلى مناطق التماس والاستيطان، في مواجهات شعبية منقطعة النظير، أسفرت عن مئات الشهداء وآلاف الجرحى في أشهرها الأولى، كان من أبرهم الطفل محمد الدرة، الذي وثقت كاميرات الصحافيين لحظة استشهاده بنيران جندي إسرائيلي، وهو يحتمي خلف والده.
وفي أول أيام “انتفاضة الأقصى” حاول الاحتلال إرهاب الفلسطينيين، لمنعهم من الاستمرار في الغضب الشعبي، فاستخدم الطائرات المروحية العسكرية في إطلاق النار، وللمرة الأولى استخدمها في قصف أهداف أرضية، سرعان ما تطور الأمر حتى استخدمتها هي وطائرات نفاثة في هجمات طالت مباني سكنية، وأسست خلالها إسرائيل نظاما عسكريا جديدا يقوم على استهداف المدنيين، بعد أن ارتكبت العديد من المجازر وقتلت آلاف الفلسطينيين.
وكانت الأوضاع السياسية السائدة عند اندلاع تلك الانتفاضة معقدة، فقد انفكت مباحثات استضافتها الإدارة الأمريكية وقتها برئاسة بيل كلنتون، بين فريقين فلسطيني وإسرائيلي، الأول برئاسة الراحل ياسر عرفات، والثاني برئاسة براك، في منتجع كامب ديفيد، وعلى مدار عدة أيام، دون أن تسفر عن أي نتائج، بسبب رفض الجانب الإسرائيلي منح الفلسطينيين حقوقهم في إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران عام 67، وعاصمتها القدس الشرقية، حيث رفض الفريق الفلسطيني وقتها تقديم أي تنازلات في ملف الحدود وباقي ملفات الوضع النهائي.
وشهدت “انتفاضة الأقصى” كذلك قيام الاحتلال باللجوء إلى سياسة الاغتيالات المباشرة، باستخدام طائراته الحربية، فأقدم على اغتيال قادة كبار من كافة التنظيمات الفلسطينية، فاستهدف من حركة فتح حسين عبيات وثابت ثابت ورائد الكرمي، ومن حماس مؤسس الحركة أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي وصلاح شحادة وإبراهيم المقادمة وإسماعيل أبو شنت وجمال منصور، ومن الجبهة الشعبية الأمين العام أبو علي مصطفى.
وقد وسع جيش الاحتلال من هجماته بناء على خطط عسكرية، فاجتاح في العام 2002، كافة مناطق الضفة الغربية، وفرض حصارا مشددا على الرئيس الراحل ياسر عرفات، ولم يفكه إلا لحظة خروجه للعلاج في فرنسا، حيث قضى هناك، وعاد ليدفن قرب مقر عمله الذي حوصر وتعرض للقصف الإسرائيلي والتدمير.
كما شهدت الانتفاضة وخلال الهجوم الكبير على الضفة، في عملية “السور الواقي” تنفيذ عمليات قتل جماعية ومجازر أبرزها ارتكب في مخيم جنين ومدينة نابلس شمال الضفة، وفي باقي مناطق الضفة، وزادت وقتها الحصار على مقر الرئيس الراحل، كما حاصرت كنيسة المهد في مدينة بيت لحم، وقامت على أثرها حكومة الاحتلال بتنفيذ مخطط إقامة الجدار الفاصل حول مدن وقرى الضفة، الذي التهم الكثير من أراضيها، كما عمدت لتوسعة المستوطنات، وبناء الكثير من المستوطنات الجديدة.
ورد الفلسطينيون وقتها على تلك الهجمات، بتشكيل الفصائل أذرعا عسكرية مسلحة، نفذت هجمات في مناطق الضفة وغزة، وداخل المستوطنات، وأخرى في قلب المدن الإسرائيلية الرئيسة.
وبالربط بين الأحداث التي كانت قائمة في ذلك الوقت، وبين ما تعيشه المناطق الفلسطينية في هذه الأيام، يلاحظ أن المشهد يكاد يتطابق، وأن الأحداث الحالية تفوق تلك التي كانت سببا في اندلاع “انتفاضة الأقصى”، ففي هذا الوقت يتسارع الاستيطان بشكل جنوني، خاصة مع إعلان الاحتلال خطته الرامية لضم 30% من مساحة الضفة الغربية، وسط تلقيه دعم عربي كبير، لم يكن قائما قبل 20 عاما، تمثل في تطبيع كل من الإمارات العربية المتحدة والبحرين علاقاتهما معه، في خذلان جديد للشعب الفلسطيني.
ويتقاطع المشهد الحالي مع السابق، بدعم القيادة الفلسطينية لـ”المقاومة الشعبية”، لصد مشاريع الاحتلال الاستيطانية، في وقت توحدت فيه الفصائل الفلسطينية مجتمعة على موقف مناهض لخطط الاحتلال، حيث قررت منذ أسبوعين تشكيل القيادة العليا للمقاومة الشعبية، والمفترض بحسب اتفاق الأمناء العامين أن تتلقى دعما من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وهو ما يعني بأن كل الأمور الحالية تنذر باندلاع “انتفاضة جديدة” في وجه الاحتلال، خاصة في ظل توقف العملية السلمية، وتحلل القيادة الفلسطينية من الاتفاقيات الموقعة.