وأخيرا تشكلت حكومة في لبنان يرأسها ميقاتي بعد أكثر من عام من الاخذ والعطاء وفيتو امريكي أو فيتو سعودي أو فيتو من الداخل اللبناني وضمن ظروف تدهور غير مسبوق في الوضع الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي لملايين من اللبنانيين وخاصة الفئات الفقيرة والطبقات المسحوقة في المجتمع اللبناني مع الارتفاع الجنوني للأسعار نتيجة التدهور الجنوني لليرة اللبنانية مقابل الدولار وارتفاع معدلات الفقر من 40% الى 80%. هذا الوضع المتأزم والذي كان ينذر بإنهيار الدولة اللبنانية ككل وتحويلها الى دولة فاشلة بكل ما تعنيه الكلمة جاء على خلفية سببين أساسيا مترابطين مع بعضهما البعض.
أولهما هو الحصار الخانق الذي فرضته الولايات المتحدة خارج إطار الشرعية الدولية بوضع منظومة عقوبات اقتصادية تحت مظلة ما سمي “قانون قيصر” تمنع فيه لبنان من التعامل مع سوريا بالمطلق كدولة ومؤسسات وأفراد وبنوك مع علمها التام أن سوريا تشكل الرئة التي من خلالها يتنفس الاقتصاد اللبناني. والسبب الاخر هو ما قامت به الأوليغاركية اللبنانية والطغمة الماليةبتهريب عشرات المليارات الى الخارج بإشراك وتآمر حاكم البنك المركزي اللبناني. ونقول ان السببين مترابطين لان تصرفات الطغمة المالية وحاكم البنك المركزي شكلا الأدوات التي من خلالها سعت الولايات المتحدة للسيطرة على لبنان طبعا مع إشراك جزء عريض من الطبقة السياسية بهف محاصرة حزب الله وعزله سياسيا في لبنان ومحاولة رخيصة لضرب قاعدته الشعبية. وهذا الهدف ليس بجديد فقد وضع هذا الهدف على الطاولة منذ عام 2006 بعد الهزيمة العسكرية التي مني بها جيش الكيان الصهيوني على يد المقاومة اللبنانية في الجنوب ولم يتمكن من تحقيق الأهداف التي رسمها لهذا العدوان. وكان من الطبيعي ان يزداد هذا العداء لحزب الله وخاصة بعد دخوله الحرب في سوريا الى جانب الدولة والجيش السوري وبات يعتبر قوة ضاربة إقليمية مناهضة عمليا للسياسة والغطرسة والجبروت الأمريكي ومتصديا لها خارج الحدود اللبنانية.
الولايات المتحدة أرادت ومن خلال تجويع الشعب اللبناني بكل معنى الكلمة وشل كل الأنشطة الاقتصادية في لبنان وإظهار عجز الحكومة والدولة اللبنانية ونشر الفوضى وزعزعة الاستقرار والسلم الأهلي الداخلي ودفع معظم الطبقات المحرومة والمتضررة الى الشارع للاحتجاج على الوضع القائم ومحاولة تحميل هذا الوضع الى حزب الله. ظنت الولايات المتحدة أنها بالإبقاء على الوضع المتأزم في لبنان انها ستصل الى مبتغاها ولكن سرعان ما انقلب السحر على الساحر عندما أعلن حزب الله ان الناقلة الايرانية الأولى المحملة بالنفط أصبحت في طريقها الى لبنان وعلى انها الان تعتبر ارض لبنانية في تهديد واضح لاي اعتراض لها من اية جهة كانت. وأن الجزء الأكبر من هذه الحمولة سيذهب الى المستشفيات ومحطات توليد الكهرباء والافران دون مقابل. وهذا وضع الولايات المتحدة في موقف لا تحسد عليه فإن هي او ربيتها الكيان الصهيوني قاما باعتراض الناقلة لظهر لكل الجماهير الغاضبة في لبنان ان أمريكا هي العدو وهذا يعمل ضمن الأهداف الامريكية وإن جعلت الناقلة فعلا تصل الى لبنان فإن هذا يعني نصرا لحزب الله على المستوى السياسي والشعبي وعلى انه قادر على القيام ما عجزت الدولة اللبنانية عن اتخاذه. كما ان هذه الخطوة قد وضعت كل الأدوات والاذناب من الطبقة السياسية في لبنان في موقف محرج ليس اقل حرجا من الإدارة الامريكية.
وبمجرد إبحار الناقلة بدء التحرك والتراجع الأمريكي تدريجيا فلقد اوعز للعراق بإرسال شحنات من النفط الى لبنان وتلى ذلك الطلب من بعض الدول الخليجية تقديم العون المادي الى لبنان وكانت الكويت على سبيل المثال لديها النية في المساعدة ولكنها منعت من قبل الإدارة الامريكية. وتلا ذلك الموافقة على فتح معبر جابر بين سوريا والأردن لتمرير البضائع اللبنانية الى الدول العربية وكذلك السورية أيضا. وتدحرجت التنازلات والتراجع الأمريكي بالقيام بتوجيه الأوامر الى مد لبنان بالكهرباء عن طريق الأردن والأراضي السورية بعد وصول الغاز المصري الى الأردن لإنتاج الكهرباء وإيصالها الى لبنان وإشراك صندوق البنك الدولي في التكلفة المادية لخطوط الكهرباء في الجانب السوري التي دمرها الإرهابيين. وقام وفد وزاري رفيع المستوى بزيارة سوريا لأول مرة منذ عام 2011 لوضع اللمسات والتخطيط لعملية إيصال الكهرباء والغاز الى لبنان تلاه الاجتماع الذي حضره وزير الطاقة السوري ومرافقيه في عمان مع الجانب اللبناني والأردني والمصري. وهذا يعني ببساطة ودون مواربة رفع العقوبات على سوريا وعلى دول الجوار ولو جزئيا المفروضة تحت مظلة “قانون قيصر”. واليوم يبلغ لبنان من قبل صندوق النقد الدولي بان وزارة المالية ستستلم في 16 أيلول الحالي مبلغ مليار و 135 دولار.
وربما المؤشر الجديد الذي في تقديري المتواضع يكتسب الكثير من الأهمية والذي لم ينتبه اليه البعض هو التصريح الذي أدلى به رئيس الوزراء الجديد في لبنان الذي أكد فيه ان لبنان سيقوم بإعادة وترميم علاقاته مع كل الدول العربية بما فيها سوريا. هذا التصريح لا يمكن ان يكون اتى من فراغ ولا من هفوة لسان ولم يكن ليأتي لولا موافقة ضمنية من قبل الولايات المتحدة والسعودية أيضا. وهذا يعني وربما أكون خاطئا في ذلك ان الولايات المتحدة عازمة او على الأقل هنالك نية لرفع العقوبات تدريجيا عن سوريا ضمن سياسة محاربة حزب الله حتى تقلل مما حققه بالترتيب مع إيران من إيصال النفط وربما الدواء أيضا قريبا الى لبنان وهنالك انباء تقول عن ان هنالك ثلاثة ناقلات أصبحت في البحر متوجهة الى سوريا او لبنان مباشرة هذا من جانب ومن الجانب الاخر انتهاجها سياسة تهدئة الأوضاع في المنطقة بشكل عام للتفرغ لمجابهة الصين وروسيا وبالتالي فإن منطقة الشرق الأوسط لم تعد لها الأولوية القصوى كما كانت سابقا. ولا ننسى أيضا انها لا تريد ان تظهر بمظهر الضعيف والعاجز أمام تحدي وتصدي محور المقاومة وفي نفس الوقت لا تريد ان تحرج ادواتها وأذنابها في المنطقة اللذين وباوامر منها وقفوا دون تقديم أي دعم للدولة اللبنانية والشعب اللبناني.
ونستخلص فنقول ان الولايات المتحدة لم تخسر الحرب العسكرية فقط التي قام بها الكيان الصهيوني نيابة عنها لتمرير صفقة القرن بل وأيضا خسرت حربها السياسية والاقتصادية المعلنة على لبنان وسوريا على وجه التحديد وما تنازلاتها وتراجعها الجزئي حاليا الا كمن يطلق الرصاص على قدمه.
كاتب وباحث أكاديمي فلسطيني