بقلم: فوزي حساينية…كاتب جزائري |
في كتابه “السنة النبوية والسنة الرسولية ” تعرض الدكتور محمد شحرور لبعض الأسباب التي تفسر وقوع عبء الرسالة الخاتمة على العرب، وهي نفس الأسباب التي تصلح لتفسير تحوُّل قيادة الوحي من أبناء يعقوب إلى أبناء إسماعيل وهو التحول الذي لا يزال العربي بسببه يتحمل غضب وسخط وانتقام الكثيرين، فقد ظلَّت النبوة محصورة في بني إسرائيل أجيالاً متتالية،وصولا إلى زكريا الذي كان هو خاتم أنبياء بني إسرائيل والمسيح عيسى بن مريم الذي كان بمثابة الإنذار النهائي لهم،وكان الإسرائيليون يعرفون أن ثمَّة نبياً سيأتي بعد المسيح عليه السلام ويكون هو النبي الذي يختم على النبوات كلِّها، وكانوا بحكم أسبقيتهم في هذا المجال يتوقعون ويأملون أن يكون آخر الأنبياء منهم،ولكن الذي حدث هو أن الإرادة الإلهية أرادت أن يكون خاتم الأنبياء عربيا، والسؤال : لماذا كان خاتم الأنبياء عربيا ؟يمكن تفسير الأمر بالاستناد إلى العوامل الثلاثة التي ذكرها الدكتور محمد شحرور فضلا عن عوامل أخرى..
أولا: إن العرب الذين كانوا يعيشون في الجزيرة العربية وخاصة في مكَّة كانوا يعرفون أنهم محاطون بعدد من الدول والأمم المتفوقة عليهم مدنيا وعسكريا، ولكنهم كانوا يعرفون أيضا أن تلك الشعوب والأمم لم تكن حرة بل كانت مستعبدة، والمُستَعْبَدْ لا يستطيع أن يتحمَّل عبء رسالة أو قضية، وهو ما حدث مع بني إسرائيل مثلا الذين وبسبب طول أمد خضوعهم للفراعنة لم يكونوا قادرين على تحرير أنفسهم بأنفسهم، فكان التدخل الإلهي ضروريا لإنقاذهم من العبودية، وهو ما ينطبق على الشعوب الأخرى التي كانت تحت سلطة الإمبراطوريات المختلفة، أما العرب في مكّة وما حولها فقد كانوا أحرارا، وهذا هو السبب الأول لوقوع العبء على كاهلهم، الحرية ، إذ لم يكن من الممكن أن ينجح النبي في دعوته لو بُعث في مدينة أو منطقة تخضع لسلطة الفرس أو الروم وهما من الدول المدججة بالقوانين- وبالتالي تنتفي الحاجة إلى شريعة جديدة- وتتصرف كل منهما كقوة عالمية، وقد رأينا معاناة السيد المسيح في تبليغ رسالته، في ظل السلطة الرومانية التي كان قادتها محل تحريض دائم من قبل الأحبار اليهود للإيقاع به بحجة أنه يدعو إلى تعاليم لا تتفق وسيادة الدولة الرومانية.
ثانيا: أما السبب الثاني الذي يُفسر كون النبي الخاتم عربيا، فهو أصالة اللِّسان العربي واكتمال اللغة العربية لحظة تنزُّل الوحي، فلم يكن من المعقول أن ينزل الكتاب الخاتم الذي يخاطب الإنسانية كلها في لغة غير مكتملة النضوج والنمو أو لغة لا تملك أصالة ذاتية أو لا تتسم بالثراء والعمق والتجذُّر الكافي، أو لغة لا تكون قادرة على عبور القرون والأزمان دون أن تندثر أو تنقرض،ومن هنا نفهم معنى الآيات التي تتحدث عن نزول القرآن بلسان عربي مبين لا مجال فيه لأي غموض أو قصور، والقرآن نفسه ساهم في حفظ اللغة العربية ونشرها في العالم وهي جدلية شكَّلت جزءا من التاريخ ،كما ستُشكل بلا ريب جزءا من المستقبل المفتوح.
ولعله من المفيد هنا أن نشير إلى أمرين : 1- تقول الباحثة اليهودية ليزلي هازلتون[1] وهي تتحدث عن رحلتها في قراءة واكتشاف القرآن: “.. بدأتُ بعدها في إدراك السبب الذي من أجله كان لابد من أن ينزل القرآن باللغة العربية،أنظر إلى الفاتحة، السورة الأولى ذات السبع آيات وهي في الإسلام الصلاة الربانية ولا تزيد عن 29 مفردة فقط في اللغة العربية، ولكنها مابين 65إلى 75مفردة في الترجمة الانجليزية ومع ذلك يبدو أنه كلما زاد عدد المفردات كلما ضعفت المعاني، وابتعدتْ عن المقصود ” ثم تُضيف “..للغة العربية خصائص ساحرة تصل إلى حد التنويم بحيث تدعوك بشدة للاستماع إليها أكثر من أن تقرأها، أن تُحِسَّها أكثر من أن تُحللها، لذا فإن القرآن بالإنجليزية هو عبارة عن ظل لروح القرآن الحقيقي.” وهكذا تصبح الرؤية أكثر إشراقا فإذا كانت ثمة أسباب موضوعية تبرر نزول القرآن باللغة العربية، فقد كان من اللازم أن يكون النبي الخاتم عربيا. 2- أما فيما يخص المستقبل المفتوح للغة العربية فيكفي كمثال على ذلك أن نأخذ فكرة عن المكانة الكبيرة التي تتمتع بها اللغة العربية في دولة كبيرة مثل إيران التي ينص دستورها في المادة السادسة عشر:” بما أن لغة القرآن والعلوم والمعارف الإسلامية هي العربية، وأن الأدب الفارسي ممتزج معها بشكل كامل؛لذا يجب تدريس هذه اللغة بعد المرحلة الابتدائية حتى نهاية المرحلة الثانوية في جميع الصفوف والاختصاصات الدراسية “.وقس على ذلك دول كثيرة في أسيا وإفريقيا وشتى أنحاء المعمورة.
ثالثا: السبب الثالث أن خاتم الأنبياء يجب أن يكون مبعثه في أم القرى” وما كان ربك مُهلك القرى حتى يبعث في أُمِّها رسولا ..” (القصص59)أو” وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أُمَّ القرى ومن حولها..”[2] كما يجب أن يكون من ذرية إبراهيم “.. وجعلنا في ذريته النبُّوة والكتاب.. “(العنكبوت 27) ولذلك وضع إبراهيم عليه السلام ابنه إسماعيل في أم القرى، أي مكة المكرمة أرض الله الحرام، تمهيدا وانتظارا وترقبا لما في ضمير الغيب. وكان الرسول الكريم يقول : ” أنا دعوة أبي إبراهيم “.
ولاريب أن هذه العوامل الثلاثة تساهم في إثراء فهمنا للأسباب التي قد تفسر لماذا كان النبي الخاتم عربيا، ولكن ولمزيد من الفهم الأكثر عمقا وقدرة على التفسير، نستطيع أن نضيف إلى ما سبق العوامل التالية:
رابعا: العرب في مكَّة وحولها لم يسبق لهم وأن كانوا محل تكليف إلهي”.. لتنذر قوما ما آتاهم من نذيرٍ من قبلك..”(السجدة 3)، أي لم يسبق اختبارهم،ولذلك وقع الاختيار عليهم لأنه لم يحدث وأن كان منهم تمرد على الإرادة الإلهية شأن بني اسرائيل”..أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون..”[3] فلم يكن من الممكن أن ترهن العناية الإلهية مصير الرسالة الخاتمة والنهائية لدى قوم طالما تمردوا على الأنبياء والرسل، ولذلك جاءت الرسالة الإسلامية ناسخة للرسالة الإسرائيلية ” ما ننسخ من أية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير”(البقرة 106)،فالرسالة الإسلامية خير من الرسالة الإسرائيلية بحكم الخاتمية والعالمية وما ينتج عن ذلك من حقائق كبرى لا مجال لتفصيل القول فيها هنا..
خامسا: أشرتُ في المقدمة أن زكريا هو خاتم أنبياء بني إسرائيل، وقد أدرك عليه السلام هذه الحقيقة،عندما وجد نفسه وقد أصبح شيخا كبيرا، وامرأته عاقرا، فأدرك مغزى الأمر وعرف بحسِّ النبوة أنه سيكون هو النبي الخاتم في بني إسرائيل فشعر بالقلق على قومه كيف سيتصرفون من بعده دون وجود نبي بينهم ” وإني خفت الموالي من ورائي.. “[4] لذلك توجه إلى الله بدعائه المؤثر كما سجله القرآن “..فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب ..”[5] أي يرث عني وعن آل يعقوب النبوة، وقد استجاب الله لدعاء نبيه زكريا استجابة مشروطة بأن لا يكون يحي مصدرا لاستمرار الذرية، لذلك يُوصفُ يحي في القرآن أنَّه “حصورٌ”[6] أي ليس في تركيبه الميّل إلى النسَّاء، وما يتبع ذلك من زواج وإنجاب، فهو نبي وسيد، ولكنه لن ينجب، لأن زكريا هو خاتم الأنبياء في بني إسرائيل وابنه يحي هو ثمرة الاستجابة الإلهية المشروطة لدعائه، وهنا تقف الأمور..
سادسا : وقد يتساءل البعض إذا كان زكريا هو خاتم الأنبياء في بني إسرائيل، فماذا بشأن المسيح عليه السلام ؟ ألم يكن من بني إسرائيل ورسولا إلى بني إسرائيل ؟ الجواب بلى ! ولكن المسيح جاء في سياق خاص جدا، فقد كان بمثابة الإنذار النهائي لبني إسرائيل،هل يتبعون السبيل الإلهي أم لا ؟ ولعل في ميلاده دون أب إشارة واضحة إلى هذه الخصوصية، وقد كان موقفهم من المسيح رفض الإيمان ومحاولة الفتك به، مع التشهير بأمّه الصديقة مريم، ورميها بما ليس فيها،ومن مفارقات الزَّمن أن المسيحية التي هي في الأصل جزء من اليهودية وتكملة لها، انفصلت فيما بعد وأصبحت دينا مستقلا، وكان للقديس بولوس( 4م- 64م) الدور الأكبر في تأسيس المسيحية وإدخال تأليه المسيح إليها، فإذا علمنا أن بولوس كان يهوديا واسمه شاؤول، وأنه اعتنق المسيحية على إثر رؤية رآها وهو في طريقه إلى دمشق كما تقول الروايات،أدركنا وجه المفارقة، إذ أن المسيحية التي يُعد بولوس اليهودي مؤسسها الأكبر ظلت تضطهد اليهود على مدى قرون وتُحمِّلهم المسؤولية عن تعذيب وقتل السيد المسيح !
وإذن، فثمة أسباب موضوعية تفسر لماذا كان خاتم الأنبياء عربيا، وهي الحرية، وأصالة اللِّسان العربي، وكون مكة أم القرى تقع في أرض عربية، فضلا عن تقصير بني إسرائيل في حمل أمانة الوحي كما كان ينبغي لهم، لذلك خُتمت النبوة في بني إسرائيل بـ زكريا، وكان المسيح بمثابة نداء أخير وخاص لهداية الإسرائيليين وإنذارهم في آن.وتُوِّج ذلك بتحويل مسؤولية حمل أمانة الوحي بصورة نهائية من اليهود إلى العرب، مصداقا لقوله تعالى:” ..الله أعلم حيث يجعل رسالته..” (الأنعام124).
لكن وكما هي الأمور في الكثير من الأحيان مع هذا الإنسان الذي وصفه القرآن بحق أنه ” أكثر شئ جدلا “[7]، فهناك دائما من يحاول أن يدخل من النوافذ أو يتسلل من ثغرة ما، عندما يتأكد أن كل الأبواب قد أُغْلِقَتْ،لذلك فإنه مما يرتبط بموضوعنا ارتباطا عضويا أن نقف ، ولو بكلمة سريعة ،عند النقاط التالية :
1- يوجد اليوم بعض الأشخاص والجماعات من وبحجة أن الأمور الدينية اختلطت والحقائق الروحية الناصعة ضاعت، يناشدون الله سبحانه أن يرسل رسولا جديدا زاعمين أن القرآن نص على أن محمدا صلى الله عليه وسلم ، هو خاتم الأنبياء وليس خاتم المرسلين، وأن المجال بذلك لازال مفتوحا لكي تستقبل الإنسانية رسولا آخر، ولا أجدُ إزاء هذا التطلع إلى قدوم رسول جديد إلا أن أقول: لو كان هؤلاء يبحثون حقا عن الحقيقة لرجعوا إلى الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه، ليعلموا أن مثل هذا الرسول لن يأتي أبدا، لأنه لارسالة بدون نبوة، والنص على ختم النبوة يتضمن حتما ختم الرسالات والرسل، والمصادر الأكثر حداثة وعقلانية وإقناعا التي تشرح هذه المسائل عديدة، لكن يبدو أن الرغبة في استقدام رسول جديد تعد هاجسا يشغل نفوس البعض أو مطية يريد بعض آخر ركوبها بأي ثمن.
2- وبالفعل فإن السؤال يفرض نفسه، لماذا يريدون رسولا جديدا، هل ليأتيهم بكتاب جديد؟ هذا يعني أنهم لم يقرأوا الكتاب الذي بين أيديهم الذي جاء فيه “..اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا..” (المائدة 3) فالدين قد اكتمل، والنعمة قد تمت والإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله ضمن قيم إنسانية تسع الناس جميعا بمن فيهم أصحاب الديانات الأخرى، وحتى أؤلئك الذين لا يريدون أن يكون لهم دين أصلا، إذ أنه ” لا إكراه في الدين “[8]، فالإنسان حر في اختياره لأي دين بما في ذلك اللادين، ” فمن شاء فليكفر ومن شاء فليؤمن” (الكهف29) وهذا يوضح أنهم لم يقرؤوا ” وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل..” ( آل عمران 144) من قبله، أما من بعده فلا نبي ولا رسول” ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين، وكان الله بكل شئ عليما “[9] وإنما كتاب فيه كلمة الله النهائية إلى الإنسانية ، يقرأه الناس بعقولهم ويصغون إليه بقلوبهم على ضوء ما يُستجد من حاجات ووقائع الحياة،مع ضرورة الانتباه إلى آخر الآية ” وكان الله بكل شئ عليما ” في تأكيد واضح على أن قرار ختم النبوات قد جرى اتخاذه استنادا إلى العلم الإلهي الشامل،ولم يكن محض انقطاع طارئ أو عشوائي في سلسلة النبوات.
3- لقد مات خاتم الأنبياء والمرسلين، ولكنَّه كما قال طه جابر العلواني ” ترك فينا القرآن نبيا ورسولا إلى يوم القيامة “، فالنبوة والرسالة يجدهما من يبحث عنهما جادا في الكتاب المجيد، وكما ذكر أحد المفكرين بحق، حتى ولو جاء رسول آخر- وهذه مجرد فرضية – فإنَّه لن يأتينا بشئ جديد فوق ما هو مذكور في الكتاب الخاتم، لقد كان الإعلان عن ختم النبوة إعلان عن ختم الرسالة، ووصول الإنسان إلى مرحلة من النضج العقلي والإنساني استحق معها الثقة الإلهية في أنه سيكون قادرا على مواصلة دربه والدخول بجدارة واستحقاق إلى عهد ما بعد الرسالات التي خُتمت بالرسالة المحمدية، أما من تحركه نوازع ودوافع أخرى غير البحث الجاد عن الحقيقة، فيمكنه أن ينتظر كما يشاء من يشاء…
وحتى إذا قال شخص ما ، أنا لا أؤمنُ بالقرآن حتى تستشهد لي بالآية الثالثة من سورة المائدة،أو تجعل منها حجة لإقناعي ، فنقول له : أنظر إلى الواقع الموضوعي، فهاهي أربعة عشر قرنا تمضي وما من رسولٍ ظهر، اقرأ الكتاب الذي بين يديك لتعرف لماذا لن يكون هناك رسول بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، وتأمَّل في صيرورة الزمن لتقف بقوة العقل على كلمة الحق التي وقف عليها علماء من كل الأديان والأجناس..
[1] – فيديو على الشيكة.
[2] -الآية 7سورة الشورى .
[3] – الآية87 سورة البقرة.
[4] -سورة مريم الآية 5
[5] – سورة مريم الآيتان5و6
[6] – الآية 39 سورة آل عمران.
[7] – الآية54 سورة الكهف.
[8] – الآية 56 سورة البقرة.
[9] – الآية 40 سورة الأحزاب.