يتساءل المهتمّون بمصير الملف النووي الإيراني، عن مآله الأخير هذه الأيّام، بعد أن واكبوا سلسة طويلة من المفاوضات، بين وفدها مع ممثلي دول الغرب، والتي أفضت إلى اتفاق 5+1 لم يكتب لبنوده التنفيذ، بتحريض صهيوني متواصل، دعا إلى إنسحاب أمريكا منه، في عهد رئيسها المتصهين (دونالد ترامب)، واستعصاء دول الإتحاد الأوروبي نتيجة لذلك على تنفيذ تعهداتها، توقّيا وخوفا من أن تطالها العقوبات الأمريكية، بعد عجزها عن توفير منصّة مالية، خاصة بتعاملاتها مع إيران، دون المرور بالقناة المالية الأمريكية، المسيطرة على المعاملات المالية العالمية، التي لا يزال الدولار الأمريكي، العملة العالمية الغير قابلة للتغيير إلى اليوم، رغم ما أشيع عن إفلاس رصيده.
هذا الملف الذي أُسيل على هامشه حبر كثير، وصدحت به على منابر المنظمات الدّولية أصوات نشاز، اجتمعت كلها على معاداة إيران، رغبت في تقويضه نهائيا، بدعوى تضمّنه برنامجا عسكريا، لم يثبت منه شيء إلى حد اليوم، وكل ما أثاره الكيان الصهيوني المتزعّم لهذه الحملات المتكررة، لا يتعدى كونه مجرّد إدّعاءات لا دليل عليها، يمكن اعتماده كورقة إدانة ثابتة، ويبدوا أن عالم السياسة بمناورات دوله وأهدافها المعلنة والمخفية، يحتفظ بأسراره من الجانبين الإيراني والغربي، غير أن ما يُمَيّز الجانب الإيراني ثباته ومصداقيته، التي بنى عليها سياسته الخارجية عموما، وفي هذا الملفّ خصوصا.
أمّا دول الغرب التي تتحكم فيها أمريكا، فإنها تعتقد بأسلوبها التي انتهجته، في عرقلة التطوّر النووي الإيراني، بفرض عقوبات مضاعفة وقاسية، على منشآت ومؤسسات وأفراد، ترى لها علاقة بالمشروع، وتكثيف العقوبات والإبقاء عليها، من شأنه أن يُجبر قادة إيران على النزول عند رغبة دول الغرب، في إنهاء طموح الشعب الإيراني، بأن تكون بلاده ذات دورة نووية كاملة، في مجالات علوم الطب والطاقة والتكنولوجيا.
أمّا بالنسبة لإيران، فإنها أثبتت أنها عصيّة على مخططات دول الغرب ومؤامراتها، واعية بما يهدفون إليه، من خلال تراخيها عن الوفاء بالتزاماتها، فيما أمضت عليه من بنود الإتّفاق، بعد عجز الدول الأوروبية عن وفائها بما التزمت به وأمضت عليه، قد اتخذت منهجا وطنيا لا يساوم بخصوص مصالح شعبها، لذلك إتجه أهل الدراية والإختصاص في هذا المجال، إلى وقف العمل ببنود الإتفاق الطّوعي واحدا بعد الآخر، ردّا على تقاعس دول الغرب، وقد يفضي حقّ الرّد الإيراني إلى إلغاء الإتّفاق برُمَّتِه في نهاية المطاف، والسنوات التي خسرتها إيران على عهدي الرئيسين خاتمي وروحاني، لا يصعب على شعب متمترِسٍ متثبّث بحقوقه أن يتجاوز تعطيلها، ويحقّق بدلها ما يثلج صدور المؤمنين.
حتى أنه اليوم لم يعد هناك مجال لمواصلة سياسة التفاوض، من أجل التفاوض ومضيعة الوقت، استجابة لهوى دول الغرب وخبث سياساتها، التي ترى في إطالة أمد المفاوضات مع إيران بشأن ملفّها النووي السّلمي، وهي مدركة تماما أنه سلميّ 100%، على انّها ملاعبة وتمْنِية لإيران واستدراج لها، بهدف السّيطرة عليها، ودفعها لفتح مجالات إتفاقات أخرى عسكرية دفاعية، كبرنامج صواريخها البالستية، الذي أصبح مزعجا لقوى الغرب، ويرون فيه خطرا على لقيطتهم إسرائيل، ومع يقين الإدارة الأمريكية بأن مطلبها، لا يتعدّى كونه أمنِية لن تتحقّق، فإن ضغوطها الإقتصادية التي تمارسها بعقوباتها القصوى، لم تفلح لحدّ الآن في إجبار إيران على النزول عند رغبتها.
اليوم، وفي غياب صاحب حقيبة دبلوماسية المفاوضات الوزير(محمد جواد ظريف) تغيب الإبتسامة من المشهد، ويحضر صاحب العين الثاقبة،( أمير حسين عبداللهيان) ويبقى موعد الجولة الجديدة من المفاوضات، رهين وعود حقيقية، لا مفرّ منها تنفيذا، وقد عبّر قادة إيران عن موقف نهائي وحاسم هذه المرّة، بعد عجز الدول الأوروبية تحقيق شيء من بنود الإتفاق نتيجة العراقيل الأمريكية المكبّلة لمساعيها، وهي دول لا تزال تابعة للقرار الأمريكي خاضعة له تماما، وتخشى على مصالحها بخرقه، مثال على ذلك، خروج شركة توتال الفرنسية من عقد تطوير المرحلة 11 من حقل (بارس) الغازي المشترك مع قطر، وتجدر الإشارة إلى أن هذا العقد، كان الوحيد للشركة في إيران، ونقلت وكالة “فارس” عن وزير النفط الإيراني المتخلّي(1) (زنكنة) القول اليوم الاثنين (20 أغسطس / آب 2018) إن “توتال” كانت أعلنت قبل شهرين اعتزامها الإنسحاب من العقد، وأنها انسحبت بالفعل ويجري حالياً عملية إحلال شركة أخرى مكانها.
وكانت إيران وقعت الصيف الماضي اتفاقاً مع كونسورتيوم دولي بقيادة “توتال” ويضم “سي.إن.بي.سي.” الصينية و”بترو بارس” الإيرانية، لتطوير المرحلة 11 من حقل (بارس) الغازي، في صفقة هي الأضخم في مرحلة ما بعد الحظر حينئذ، وقد بلغت قيمة العقد 4.8 مليار دولار(2)، انسحاب لا مبرر له، سوى الخوف من أن تطال الشركة الفرنسية العقوبات الأمريكية، لذلك فإن أي إتفاق مستقبلي، لا يجد طريقا لتجاوز أو تفادي العقوبات الأمريكية، لا معنى له في الجانب الإيراني، وعلى أمريكا إن كانت جادّة في تصريحات إدارتها أن تبادر برفع العقوبات جميعها دون استثناء، وإلّا فإنه لا فائدة من مفاوضات تقام هنا وهناك، ولا تفضي لشيء يحُلّ عقدة الملفّ المرتهِنِ برمّته لدى الأمريكان.
وسط عالم دفع بعضه الفضول لمعرفة نهاية دبلوماسية له، بينما يترقّب البعض الآخر نشوب نزاع بسببه، يدفع الأمريكيين والصهاينة إلى شنّ عدوان عسكري على إيران، لضرب مواقعها النووية، بينما واقع الأمر يقول: إن أيّ عدوان من هذا النّوع على إيران، سيُنهي كيانا إسمه إسرائيل، من أرض فلسطين إلى الأبد، ليس هذا فقط، بل سيسبب ضررا فادحا لأمريكا، غير قابل للإصلاح، بإنهاء وجود قواعدها المنتشرة حول إيران كالطّوق، ويقترب أجل زوالها، بسوء السياسة المتوخاة ضدّ إيران الإسلامية.
مسألة استئناف المفاوضات هي اليوم بيد إيران، وقد قدّمت ما يفيد بأن برنامجها سلمي تماما، وعبّرت عن حسن نواياها بتنازل يطمئن الأطراف المفاوِضة ويسقط توجّساتهم بشأنه، ولن تعود دبلوماسية إيران إلى مفاوضات أخرى، دون الحصول هذه المرّة على ضمانات تعبّر فيها الأطراف المقابلة، عن جدّيتها والتزامها الكامل بشأن الاتّفاق القديم، إن عادت إليه أمريكا أم لم تعُد إليه، فالقضيّة متعلّقة فقط بإلغاء جميع العقوبات المسلّطة على إيران، حتى تعود إيران إلى العمل بجوهر الإتّفاق، وإلا فإنه سينتهي ليضاف إلى تاريخ سياسة الغرب الخبيثة.
المصادر
1 – وزير النفط الحالي في عهد السيد رئيسي هو جواد أوجي
2 – شركة توتال الفرنسية تنسحب رسميا من إيران
https://www.dw.com/ar/a-45143258