الجمعة , 22 نوفمبر 2024
أخبار عاجلة

مؤشّر الفساد العالمي وتراجع الدول العربيّة في مكافحته…بقلم مصطفى قطبي*

لا يهمنا إذا كان الفساد نتيجة عملية إنجاب طبيعي أم ولادة من الخاصرة لأنه وبكلا الحالتين مولود معتوه ومشوه خلقياً وأخلاقياً ومصدر التشوه خلل، فوضى، كثرة ولادات سابقة في الانحطاط وفقدان الإحساس والتماس مع البشر والحجر، حتى أن مولود “الفساد” يصعب عليك تصنيفه…؟! مناسبة الحديث عن الفساد هو متابعة تقرير “مؤشرات الفساد لعام 2021” لمنظمة الشفافية الدولية الذي يتحدث عن الفساد العالمي، وقد حذرت المنظمة من الآثار السلبية لعدم محاربة هذه الظاهرة على أوضاع حقوق الإنسان في العالم، كما إنه يهدد جهود مكافحة وباء كورونا.

ان ظاهرة الفساد تفشت بصورة غريبة في أغلب دول العالم، وعلى وجه الخصوص في دولنا العربية ”كونها تهمنا بالدرجة الأول”. وفي هذا السياق وفي تحليلها لـ”مؤشرات الفساد لعام 2021″، قالت منظمة الشفافية الدولية، إن الفساد في دول العالم “حافظ على استقراره” وأضافت المنظمة: “في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تستمر مصالح قلة قوية في الهيمنة على المجالين السياسي والخاص، وتعيق القيود المفروضة على الحريات المدنية والسياسية أي تقدم ملموس”، كما أنه في أفريقيا، يؤدي النزاع المسلح والتحولات العنيفة للسلطة وتزايد التهديدات الإرهابية إلى جانب ضعف إنفاذ التزامات مكافحة الفساد إلى حرمان المواطنين من حقوقهم وخدماتهم الأساسية. ويظهر التحليل إن ما يصل إلى 131 دولة من أصل 180 دولة فشلت في إحراز أي تقدم ذي مغزى في مجال مكافحة الفساد على مدى العقد الماضي، حيث وصلت سمعة أكثر من عشرين دولة إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق. ووفقاً لبيانات منظمة الشفافية الدولية، فقد جاءت دول الدنمارك، فنلندا، النرويج، سنغافورة، السويد، سويسرا، هولندا، لوكسمبرغ، وألمانيا في المراتب العشر الأولى من القائمة، وتساوت الدرجات التي حصلت عليها الدول الثلاث الأولى (88 درجة) والدول الثلاث الثانية (85 درجة.

وكانت الإمارات أعلى دولة عربية في مؤشر الشفافية، وحلت في المرتبة 24 بانخفاض مرتبتين عن عام 2020، وسجلت 69 نقطة على مقياس الشفافية، وحلت قطر في المرتبة الثانية عربيا في المركز 31 في القائمة و63 نقطة. وحافظت الولايات المتحدة على المركز 27 عالميا مسجلة 67 درجة على مؤشر الشفافية، في انخفاض استمر خلال السنوات الماضية، فيما جاءت الصين بالمركز 66 وحققت 45 درجة وروسيا بالمركز 136 ب29 درجة. وجاءت إسرائيل في المرتبة 36 عالميا و59 درجة. وسجلت السعودية المرتبة 52 عالميا بـ53 درجة، وبعدها من الدول العربية كل من عمان بالمركز 56 والأردن بالمركز 58 وتونس بالمركز 70، والكويت بالمركز 73، والبحرين بالمركز 78، والمغرب بالمركز 87، والجزائر بالمركز 117، ومصر في نفس المركز، ولبنان بالمركز 154 والعراق بالمركز 157، والسودان بالمركز 164، وليبيا بالمركز 172، واليمن بالمركز 174، والصومال وسوريا بالمركز 178، وجاء جنوب السودان في ذيل القائمة بالمركز 180.

وإذا كانت منظمة الشفافية الدولية تبحث في الفساد في دول العالم، ولا تجد صعوبات تذكر فيها أو تجد بعضاً منها، فإنها منذ سنوات أخيرة تتوفر لها شفافية واسعة في معرفة الفساد في بعضها، وخصوصاً في الوطن العربي. شفافية ليست من حيتان الفساد بأنفسهم وإنما من خلال سيرة الفساد الذي أصبح عنواناً بارزاً للحكم وشفافاً لدرجة التصريح بالاسم والعنوان. ففي عصر عولمة الليبرالية الجديدة، ازداد الفساد لأن العولمة اعتمدت السياسات الجديدة، وألغت الحواجز والحدود أمام تنقل السلع ورؤوس الأموال وغدا العالم سوقاً واحدة، وقرية كونية مع انعدام الرقابة والانحلال في القيم والأخلاق وانتشار ظاهرة الفساد عبر المجتمعات، إضافة إلى انتشار الجريمة المنظمة والفساد الإداري وجرائم المخدرات والإرهاب وأزمة المديونية، واللا مساواة في توزيع الدخل. للفساد آثار ضارة متعددة أهمها: التأثير السلبي على أهداف عملية التنمية وتبديد الموارد والإمكانات، وإضعاف فاعلية وكفاية الأجهزة وإحْدِاث تآكل في قدرة الحكومة على تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وحرمان المواطنين من الموارد الطبيعية في بلدانهم. فالتنقيب عن النفط أو المعادن يولد أرباحاً هائلة، ومن ثم يخلق حوافز قوية للفساد ناهيك عن هدر الحكومات للأموال العامة بسبب العمولات غير المشروعة في المشتريات العامة. ووفقاً للمفوضية الأوروبية فقد بلغت خسائر إيرادات ضريبة القيمة المضافة 140 مليار يورو عام 2018 بسبب جرائم الاحتيال والتهرب، و164 مليار يورو عام 2020 بسبب جائحة كورونا.

لقد لجأت الحكومات بعد جائحة كورونا، للإنفاق الكبير لتمويل مواجهة الجائحة، وصدر تقرير عن البنك الدولي بعنوان “تعزيز فعالية الحكومات وشفافيتها: مكافحة الفساد” ذكر بعضاً من الأساليب لمساءلة الحكومات، وتعزيز فعالية إستراتيجيات مكافحة الفساد في القطاعات الأكثر تضرراً من الجائحة. ويؤكد التقرير أن بمقدور الدول تحقيق تقدم في مكافحة الفساد حتى في أكثر الظروف صعوبة، الجائحة الطارئة دفعت الحكومات إلى إنفاق كبير بحجة إنعاش الاقتصاد من دون التقيد أحياناً بمبدأ الرقابة التقليدية على المال العام وهذا يُعرض الحكومات لمجموعة متنوعة من مخاطر الفساد. يحضرني هنا تجربة الصين بمكافحة الفساد التي وضحها الرئيس الصيني شي جين بينج في خطابه أمام المؤتمر الوطني الـ19 للحزب الشيوعي الصيني، مؤكدا أن “الفساد هو أكبر تهديد”، وهو “من الاختبارات التي تواجهنا لكونها تتعلق بالحوكمة والإصلاح والانفتاح واقتصاد السوق والبيئة الخارجية، ونبه إلى ضرورة تمتع المسؤولين بالصراحة والمصداقية ومعالجة القضايا السياسية بكل نزاهة”.

نعم… إن انتشار البرجوازية والإقطاع بأشكاله الحديثة، وظهور دول الإقطاعيين والرأسماليين والانتفاعيين الجدد من لصوص الثروات والمتسلقين على أكتاف الآخرين، وازدياد مشكلة تضخم الأموال في يد فئة قليلة من الناس، ووصول البعض إلى المراكز الإدارية والحكومية بمعايير مزدوجة ومجحفة وظالمة كمعايير المصالح الشخصية والمجاملات والنفاق الاجتماعي والقبلي ومن في شاكلتها على حساب من هم أحق وأجدر بها في عالمنا العربي والإسلامي، هو نتيجة مباشرة لما يطلق عليه بفساد إدارة السلطة السياسية والاقتصادية للدول والحكومات، وبالتالي فإن هذه الظاهرة الدولية العابرة للقارات تبدأ من الداخل، وبمعنى آخر، هي رصيد الخلل في بنية الدولة نفسها وأنظمتها الإدارية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الداخلية. ووفقاً للبنك الدولي، بلغ حجم التدفق السنوي لأموال الفساد والأنشطة الإجرامية والتهرب من الضرائب 1.6 تريليون يورو، تمثل منها عمليات التهرب من دفع الضرائب في الاتحاد الأوروبي ما يقرب من 250 مليار يورو. وفي تقرير صدر عن الأمم المتحدة عام 2019 بعنوان: “متحدون ضد الفساد” أوضح أن قيمة المبالغ المسروقة بطريق الفساد ما يزيد على تريليونين ونصف التريليون دولار، لتساوي 5 في المائة من الناتج الإجمالي العالمي.

وأخال أنه يتوجب علينا نحن العرب، في واقعنا الراهن، ومحنتنا مع جائحة كورونا ومتحوراتها، وتبعيتنا المهينة، وضياع حقنا على دروب الأقوياء، وبأسباب من أنفسنا… أن نخلّص بلداننا من فتك الفساد والإفساد، ومن الذين ينشرون هذا الوباء في حياتنا المادية والروحية، في سياستنا… كما في إعلامنا ومجتمعنا وأحزابنا، وبالتالي فإن العلاج ومكافحة هذا الوباء لا يمكن أن يأتي من الخارج أو أن يبدأ من الخارج، أو يتم الاعتماد على مواجهته بوسائل خارجية مستوردة، إنما لا بد أن ينطلق ذلك من الداخل، (لهذا فمن الضروري أن يكون لجهود المكافحة وللأطراف المعينة بها، رصيد معرفي عن خصوصية أوضاع الفساد في البلد المعني، وهناك أيضاً اختلافات داخل البلد الواحد بين القطاعات المصابة بالفساد في طبيعة الظروف والعوامل المهيأة له، والآليات التي تجري بها ممارسته وتعاملاته بين الأطراف المختلفة)، وهو ما قصدناه من خلال ضرورة الانطلاق من الداخل في كل شيء في سلسلة مواجهة ومقاومة هذا الداء العابر للقارات. ويتخذ هذا التحدي بالنسبة لأغلب البلدان العربية ملامح أشد وطأة حيث تعاني الفساد بأشكال متعددة تفوق ما ذهب إليه تعريف قاموس أكسفورد بشأنه، ولذا من الحصافة أن تسعى لامتلاك أدوات قادرة على مواجهته ولا نقول استئصاله كليًّا، لأن ذلك من المستحيل بخاصة مع كثرة الشياطين الذين (استبسلوا) في سرقة وظيفة (إبليس) وتمنطقوا بها.

إن توصيف العمل المطلوب لنا في خوض معركة حقيقية لمواجهة الفساد، وما دام الحديث عن الأولويات، علينا أن نستعين ولو بالحد الأدنى من برنامج منظمة الشفافية العالمية، في إطار محاور تأثير الفساد على القضاء وحكم القانون، وكذلك الفساد في القطاعين الاقتصادي والمالي، والفساد الإداري في نسختيه الداخلية والخارجية، ودور النخب المثقفة في مكافحة الفساد، وقيادة وتوجيه المجتمع من أجل ذلك. وبالاتساق مع ما أشرنا يصبح من الأخلاق أن يتم الاعتراف بأن الفساد في بعض الدول العربية برؤوس سياسية، أي بما يتماهى مع اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد ضمن المادة 18 تحت بند المتاجرة بالنفوذ، من خلال (قيام موظف عمومي أو أي شخص آخر بشكل مباشر أو غير مباشر، بالتماس أو قبول أي ميزة غير مستحقة لصالحه هو أو لصالح شخص آخر لكي يستغل ذلك الموظف العمومي). ونصل أخيراً إلى أهمية تطبيق مناهج علم الاجتماع القانوني، وهو العلم الذي ينظر للقانون باعتباره نسقاً اجتماعياً يتفاعل مع باقي الأنساق السياسية والاقتصادية والقيمية، وفي ضوء بحوث هذا العلم نفهم كيف تصاغ القاعدة القانونية، ومن هي ”جماعات الضغط” و”جماعات المصالح” التي تؤثر على صياغتها والقادرة على حماية مصالحها بالقانون، أو من ناحية أخرى إفراغه من أي مضمون حقيقي لو أريد تطبيقه بشكل فعال لمواجهة السلوك المنحرف، ومن ناحية أخرى تفيدنا أبحاث هذا العلم في فهم عملية تطبيق القانون، وهل تستطيع بعض فئات النخب السياسية أو الاقتصادية الإفلات من تطبيق نصوصه وذلك باتباع وسائل شتى، سواء في مرحلة صياغة القانون أو في المراحل الخاصة بالتحقيق أو المحاكمة. بناء على هذا الإطار النظري الشامل يمكن لنا أن نقوم بتشريح ظاهرة الفساد وأن نبتكر الحلول المتعددة التي يمكن بتطبيقها مواجهتها مواجهة فعالة. ولو أردنا الإيجاز لقلنا أن الحل يكمن في تحقيق العدالة الاجتماعية من جانب، والتطبيق الدقيق لمبدأ سيادة القانون من ناحية أخرى، غير أن ذلك لا يمكن أن يتم إلا في مجتمع استطاع أن يؤلف تأليفاً خلاقاً بين الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية.

* كاتب صحفي من المغرب

شاهد أيضاً

كتب مصطفى قطبي: الإسلام السيّاسي بالمغرب العربي..من اللامعقول إلى المجهول

تعكسُ الاحتجاجات الشعبية التي بدأت من تونس، وتنذرُ بامتدادها إلى دول مغاربية أخرى، مدى الرفض …

المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2024