كان من الإنصاف أن نصف عملية اقصاء سوريا وقطع علاقات الدول العربية معها عملا غير أخلاقي، واعتداء على حقوق دولة وشعب لم يصدُرْ منه ما يعكّر صفو علاقاته الخارجية، كل ما في الأمر أن تُبّع أمريكا والغرب من هذه الدول المعتدية تلقت أوامرها من أسيادها الغربيين لتنفيذ مؤامرة خطيرة بحق بلد شقيق طالما حمل على عاتقه هموم الآخرين وعمل على حلّ مشاغلها.
واليوم وبعد مرور سنوات على ذلك العدوان السيء الذكر، وصدور تلك القرارات السياسية المشينة، بدأت تباشير حلحلة ملف العلاقات العربية السورية تلوح في الأفق، لتطرح عدّة أسئلة بخصوصه، هل كان هذا التراجع الذي نشهده من تلقاء الحكومات العربية أنفسها؟ أم أنّه استراتيجية جديدة أملاها فشل المشروع الغربي في اسقاط النظام السوري؟ وماذا يمكن توقّعه من هذا التحول الجديد في المواقف العربية الرسمية تجاه الدولة السورية؟
بداية أقول، أنه لم يكُن مفاجئا أن يجتمع وزراء الخارجية العرب في مقرّ جامعتهم بالقاهرة، للنظر في جدول أعمال مؤتمر القمة القادم، الذي سينعقد بعد أيام في الرياض السعودية، والذي أدرج على لائحته مسألة عودة سوريا إلى مقعدها، ورجوع عضويتها في صلب هياكل الجامعة العربية، فما لوحظ منذ بداية السنة الحالية يكفي للإشارة، إلى أنّ هناك تمشّيا حثيثا، يتّجه نحو إعادة سوريا إلى موقعها الطبيعي، بعد تعسّفٍ قاموا به من قبلُ بحقّها، فجمّدوا عضويتها في مجلسهم، ولم يقف عدوانهم عند هذا الحد بل ودعوا متآمرا عليها اعتبروه ممثلا لها ليشغل مقعدها .
الأخبار حول هذا الاتفاق والإجماع المتوقع – بل لعله تأخّر كثيرا – جاءت متطابقة ومقتضبة بما يلي: (قررت جامعة الدول العربية، الأحد، استئناف مشاركة وفود حكومة النظام السوري في اجتماعاتها، لتنهي أكثر من 11 عاماً من تعليق عضوية دمشق، إثر الاحتجاجات التي تحولت إلى نزاع دام، ورافقه قرار عزلة دبلوماسية، فرضتها دول عربية عدة منذ بداية النزاع في 2011 على دمشق.. وأعلن مجلس جامعة الدول العربية إثر اجتماع غير عادي على مستوى وزراء الخارجية استئناف مشاركة وفود حكومة الجمهورية العربية السورية في اجتماعات مجلس جامعة الدول العربية، وجميع المنظمات والأجهزة التابعة لها اعتباراً من 7 أيار/ مايو 2023).(1)
وجاء على صفحة أورو نيوز الأوروبية: ( ويأتي قرار جامعة الدول العربية، الذي سبقته خلال الأسابيع الماضية مؤشرات انفتاح عربي على سوريا، قبل عشرة أيام من قمة عربية من المزمع عقدها في السعودية في 19 أيار/ مايو، وليس معروفاً ما إذا كان الرئيس السوري بشار الأسد سيشارك فيها، جدير بالذكر أنّ القمة العربية في سرت الليبية في العام 2010 كانت آخر قمة حضرها الرئيس السوري.) (2)
مجرّد كلام خبريّ بلا طعم يُستساغ، وكأنّي بمن اجتمع وأخبر بهذا الاجتماع، غايته عودة سوريا من الباب الصغير، بعد أن أخرجوها منه من الباب الدعائي الكبير، الذي أيقنوا فيه بنهاية النظام السوري وسقوط دولته، ليصبح في أملهم المعقود غربيا وصهيونيا، البلد المطبع الأخير حول فلسطين المحتلة، ويكون في ذلك نهاية القضية الفلسطينية، وإضعاف محور المقاومة الذي تتزعمه إيران، فماذا تخفي وراءها المبادرة العربية؟
لقد كان الهدف الأوّل كما هو معروف، إسقاط النظام السوري واحلال نظام بديل له، يكون دوره الموافقة على ما رفضه الرئيس بشار الأسد كما رفضه أبوه الراحل حافظ من قبل ، من الإستجابة للشروط الغربية، في الإنتقال من محور المقاومة، إلى محور المتاجرين بالقضية الفلسطينية، وللدول العربية قصب السبق في هذا الخيار، وقطع علاقاته كاملة مع إيران الإسلامية، وإنهاء علاقة التعاون مع الفصائل الفلسطينية واللبنانية، ومدّ خط أنابيب النفط والغاز من الخليج عبر سوريا، لتزويد أوروبا بالمحروقات يكون ذلك بديل للغاز والنفط الروسي.
فشل الغرب ومعهم العرب فيما ذهبوا إليه، وسقطت جميع آمالهم بشأن سوريا في الماء، ولم يعد لهم من سبيل لحور آثار تمشّيهم الخاطئ، سوى بالعودة إلى حضن سوريا، التي لم تُدر ظهرها يوما لأشقائها، وكانت الحضن الدافئ لمواساة من أصابه الضُّرُّ من دوله، والبلد المضياف للمشردين من مفكّريه وطلائع ثقافته، عاشوا بين أكنافه متساوين مع مواطنيه بلا فرق بينهم، في علاقة أخويّة نادرة الحصول في بلد غيرها.
سوريا لم تخرج قطّ عن ميثاق جامعة الدول العربية، كانت من الدول العربية الأولى التي أسهمت في صياغته بشكل فعال، واعتبرته ميثاقا ملزما لسياساتها الخارجية، ولا أقصت نفسها يوما عن التزاماتها تجاه قضايا الأمّة، وقد كانت في أحلك الظروف صاحبة مواقف تذكر فتشكر، لذلك يجب القول بأن يد سوريا على هذه الجامعة، التي أقلّ ما يقال بشأنها أنّها بائسة وعقيم، لم يصدر منها شيء مفيد للشعوب العربية وقضاياها المصيرية، وأهمّها التحرّر من تبعية الغرب، وتحقيق الإستقلال الحقيقي من مؤثراته وإملاءاته.
هذه الجامعة التي تُعتبر قراراتها محلّ شك في مصدرها، وهذا الاجتماع المنعقد في مقرها بالقاهرة، لا يبعد أن يكون إملاء ما، لأنّ حكوماتنا العربية تعوّدت على التذيّل للغرب والانبطاح له وتنفيذ أوامره، وقد يئست دول الغرب اليوم، من إسقاط النظام السوري، الذي كانوا بتحالفاتهم الدولية الواسعة النطاق يرونه قريب المنال، ولمّا طال بهم الأمد وسقط مشروعهم العدواني، قرّروا استدراج سوريا بأسلوب آخر، لا يقل خبثا عن الأسلوب الأول، وهو العمل الاستخباراتي من داخل سوريا، واستغلال كل نقطة ضعف فيه، بأموال مرصودة لأجل ذلك، فكيف سيكون موقف سوريا بعد أن استعادت مقعدها، واسترجعت مكانتها في صلب الجامعة، مع الدّول التي طبعت مع الكيان الصهيوني، وقطعت معه اشواطا في التعامل الدبلوماسي والاقتصادي والثقافي، وسوريا كما نعلم معدودة ضمن محور مقاومة، وهذا المحور المبارك أصبح اليوم قبضة حديدية صارمة، ليس في وجه الكيان الغاصب وحده، بل حتى في وجه أمريكا حامية الكيان وحليفته؟
لا تزال أعين حكام العرب ترى في علاقة سوريا مع إيران مصدر ازعاج وقلق، وهي نفس النظرة البائسة التي انتقلت إليهم من الإدارة الأمريكية، مع أنّ ما قدّمته إيران من أجل انقاذ جميع العرب من داعش وأخواتها من الحركات التكفيرية، يعجز اللسان عن ذكره، وما قدّمته إيران الى الحركات الفلسطينية واللبنانية من أجل تحرير فلسطين – وقد بدأت ثماره تينعُ- مضحّية بنسب كبيرة من مواردها، إحقاقا لحق قضية عادلة وشعب شقيق، لم يعد خافيا على أحد، فقط أمريكا والغرب والكيان الصهيوني هم المنزعجون من إيران وسياساتها الخارجية في المنطقة، ولا يزال هذا الحلف الباطل يسعى وراء إفساد العلاقات بين سوريا وإيران، وسوف لن يتوقّف عن ذلك، إيمانا منه بأنه لو فُكّ الإرتباط بين البلدين، سينجح الكيان الصهيوني في البقاء على أرض فلسطين محتلّا، ويمتد به العمر هناك، وإذا كانت عودة العرب إلى سوريا لأجل إفساد هذه العلاقة فيا خيبة المسعى.
المراجع
1 – أول ردود فعل على قرار عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية
https://arabi21.com/story/1511009/
2 – رسميا.. الجامعة العربية تتبنى قرار عودة سوريا بعد أكثر من 11 عاما على تعليق عضويتها ودمشق ترحب
https://arabic.euronews.com/2023/05/07/syria-returns-arabe-arab-league-after-11-years
.