لا يمكن أن نبرّر تجاهل العرب عمّا يجري في فلسطين عموما وغزّة خصوصا، بأنّ ذلك نابع جبلّة فيهم، جُبِلُوا عليها منذ أن وجدوا، مع أنّه ما هو معروف عنهم، ملتصق بقبائلهم قديما، أهل نجدة وشجاعة وكرم، يصعب أن ينافسهم على تلك المكارم أحد من الشعوب في ذلك الزمن، فما الذي غيّرهم كل هذا التغيير؟ بحيث أصبحوا شعوبا وحكومات مكبّلة الإرادة، لا يُحرّكها شيء من الحوادث، فلا تستفزّها المجازر البشعة، التي يرتكبها العدوّ الصهيوني كل يوم في غزة، ولا تحرّكها صيحات النساء والأطفال والشيوخ بعدما فقدوا أعزّاءهم وبيوتهم، ولم يقدروا حتى على دفن موتاهم من شهداء العدوان، يُنْطق الحجر لو كان به لسان، في موقف سلبي ينطبق عليه قول الشّاعر:
لقد أسمعت لو ناديت حـــيّا ** ولكن لا حياة لمن تـــنادي
ولو نار نفخت بها اضاءت ** ولكن أنت تنفخ في الرّماد(1)
وفيما يمضي الكيان الصهيوني في تنفيذ مخططه التدميري لقطاع غزة – وهو مخطّط قديم بدأ التفكير فيه منذ ظهور المقاومة هناك- قاصفا بصواريخه ومدافعه ودباباته وقنابل طائراته، غير عابئ بأرواح المدنيين القاطنين هناك، فيسقط من جراء العدوان يوميا المئات، أغلبهم بقوا تحت الأنقاض الأيام والأسابيع، وحتى الآن لا يُعْرف تدقيقا أعداد شهداء العدوان، والعالم بأسره حكومات وشعوبا في مشهد من تلك المجازر، وعلى علم بتلك الأوضاع الغير إنسانية المتفاقمة، وتزداد كل يوم سوءً، وبلغت حدّا لا يُطَاق، ويستدعي حلّا عاجلا ينهي معاناة سكان غزة، ويوقف عملية ابادتهم بهذا الأسلوب المروّع
السلبية التي تعاطت بها الشعوب العربية، أمام ما يجري في غزة، لا يمكن تفسيرها بغير نتيجة المسخ الفكري، الذي طرأ على عقول أغلب أفرادها، وحملهم من موقع أصحاب القضية الفلسطينية، في تبنّيها بكل طواعيّة، إلى موقع آخر بعيد عنه، قوم متنصّلون من تحمّل مسؤولية عمليّة تجاهها، كأنّها لم تعد تعنيهم، فالعمل الفعلي لنجدة غزّة غير وارد في جدول أعمال الدول العربية فضلا عن شعوبها – إلا بما يمليه عليهم قادة الدول الغربية – بقي فقط تعاطف طلائه تلك الشعوب مع القضية، فنراهم يتظاهرون هنا وهناك، ويعبّرون عن تنديدهم بالصمت العربي والدولي، تجاه ما يجري من جرائم بشعة بحق المدنيين الغزّاويين، ويقف تحرّك هؤلاء عند هذا الحدّ، لا يتجاوز وسائل الإعلام، في التعابير المنقولة لدى بعض قنواته المناصرة للقضية.
وفيما تمضي أمريكا ودول الغرب في تنفيذ اتفاقية أبراهام Abraham Accords(2)، وقد عرّفوها بهذا الإصطلاح الذي يتجاوز المجال السياسي، ليشمل المجال العقائدي والديني، إلى ما عرفناه بالديانة الإبراهيمية – المُشْتَغَلِ عليها منذ مدّة فيما يسمّى بمؤسسة التلاقي الممولة أمريكيا لبلوغ هدف دمج الأديان الإلهية في دين واحد – وتستهدِف في حقيقتها الإسلام، لمحوه من عقول وقلوب أهله، باستدراجهم إلى ديانة وهميّة بديلة، وفيها من المغريات المادّية، ما يجعل قيام هذا المشروع الخبيث ممكنا، في ظل وجود أدعياء العلم والمعرفة، من المهووسين بثقافة الغرب الفاسدة،. وقد اختير عنوان المشروع الإحتوائي بدقّة وعناية، ليكون أكثر جاذبية وتأثيرا، لمن سلبتهم ثقافة الغرب حرّية التفكير، فيقعون في شراكه صُمّا وبكما وعُميانا.
وفيما تمضي الحكومات العربية في مسار التطبيع، مهما سيؤول عليه الوضع المأسوي في غزّة، مرتّبين ترتيبا أمريكيا إماراتيا سعوديا تُركيّا، فتقع الواحدة تلو الأخرى، كل واحدة بحسب مبرراتها التي وضعتها، كدافع أودى بها إلى هذا المصير السيّء والعمل الخياني، تبقى فقط نُخَبُ الجماهير هي وحدها، من حملت ولا تزال تحمل ثقل ذلك الأمل في إعادة الوعي إلى الأمّة، باستمرار تواجدها على ساحة العمل، إبقاء لجذوة الصمود والتصدي حيّة فاعلة، قائمة في وجه أي ظاهرة خذلان وخيانة للقضية الفلسطينية.
المستثنون من العار من العرب، بعضٌ من بعضٍ، بعض الحكام الذين وقفوا بحزم الى جانب أشقائهم، وهؤلاء حكام اليمن بالدرجة الأولى ثم سوريا والعراق، والمقصود من تلك المواقف، أن هؤلاء الحكام سمحوا لحركاتهم وأحزابهم التحررية، بمقاومة التواجد العسكري الأمريكي، في شكل قواعده المنتشرة في سوريا والعراق، بدعوى محاربة الإرهاب، وقد تبيّن أنها حامية فلوله المتبقية، بعد جهود أحرار العراق من فصائل الحشد الشعبي، واللجان الشعبية بسوريا، ومواجهة الإستيطان الصهيوني في المنطقة، وهو مشروع استعماري خبيث، لن يتوقف عند فلسطين وحدها، بل سيصل إلى ما يعرف بإسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات.
فهل سيفهم بقية العرب شعوبا وحكومات، أن دورهم قادم، حسب ما خطط له أعدائهم، ولم يعد خافيا اليوم على أحد؟ ومن يروا أنفسهم أنهم بمنأى عن أطماع أمريكا ولقيطها الكيان الصهيوني فهُمْ واهمون، ولن يكونوا خارج الحسابات المحتملة لكيانين فاسدين عرفتهما البشرية، من أسوأ ما وُجّد على الأرض، من شرّ مستطير لحق شعوبها منذ قيامهما، فمن الواجب اليوم وقبل أن يقع الفأس في الراس، أن تنتبه شعوبنا العربية والإسلامية وتعي مدى خطر تجاهلهما والنظر إليهما نظرة مراعاة واعتبار سياسي على أساس أنهما نتاج علاقات محكومة بالقوانين الدولية تحت إطار المنظومات الدولية، وقد تأسست جميعها لخدمة الغرب الصهيوني في تحقيق أهدافه في التحكم والهيمنة على العالم.
حركة طلائع شعوبنا، يجب أن تستمر في التصديّ لهذه الثغرات، التي تحاول أمريكا والصهيونية العالمية توسيعها، للنفاذ منها إلى عقائدنا، ومسلّماتنا التربوية في العزّة ورفض الظلم والعدوان، فلنحذر جميعا من خطر الإنجرار وراء أوهام أمريكية صهيونية، ولنَكُن مع غزّة مساندين ناصرين لدفاعها البطولي، ولا نقف منها موقف الخاذلين لأسود مقاومتها الباسلة، فهي اليوم تدافع عن وجودنا أولا قبل وجودها، وسقوط غزّة لا قدّر الله، يستتبعه سقوطنا بعد ذلك.
المراجع
1 – من القائل لا حياة لمن تنادي https://ar.quora.com/
2 – اتفاقيات إبراهيم https://ar.wikipedia.org/wiki