قد يستغرب البعض منّا من سياسات دول الغرب المرتبطة بأمريكا ارتباطا وثيقا، برْهن على انقيادهم لها وخضوعهم لإرادتها، بعدما عقدوا عليها آمالهم، ولم يجدوا بذلك في أنفسهم حرجا في البقاء تحت مظلّتها، رغم شعورهم أخيرا بالخطر الجدّي، من فرط تجبّرها واستعلائها عليهم وعلى بقية العالم، مع أنّ هذه الدول معدودة في مقدّمة الدّول المتطوّرة، لكنّها تنظر إليها بعقدة ضعف واستسلام لا يمكن تفسيرها.
بهذه العقلية من الانهزامية المتقابلة مع غطرسة البيت الأبيض وحكامه، يُساس العالم أمريكيا، بل هو بالفعل يُساس مستجيبا لنزوات تطرّف اللوبي الصهيوني، الحاكم فعليّا في المنظومة الغربية كاملة، ومن خرج عن مسار التبعية والخضوع لها، سُلطت عليه عقوبات إقتصادية، بسياسة حمقاء عمياء، لا تقيم وزنا لأمن الدول والشعوب، وتعمل بكل وقاحة على إنهاك سياساتها المعارضة لها، الأمثلة على عنجهية أمريكا كثيرة ولا تزال مستمرّة، رغم أنّ الأمريكيون أنفسهم يعرفون أنها ظالمة، لا يزالون مستمرين فيها، تعنّتا واستكبارا منهم، لا فائدة لهم يرجونها، فقط إرضاء لسياساتهم ذات النزعة العدوانية، كما هو حاصل لدولة كوبا، منذ سقوط عميلها نتيجة ثورة شعبية يسارية، ولا تزال تلك العقوبات سيفا غشوما مسلّطا عليها، ومع ذلك بقي الشعب الكوبي وحكومته الثورية صامدين في وجه تلك العقوبات، ولم تتراجع عنها أمريكا إلى اليوم قيد أنملة.
ولم تكن إيران الإسلامية ببعيدة عن الوضع الكوبي، فهي أيضا معدودة ضمن الدّول التي تعرّضت لعقوبات أمريكا الظالمة، والهدف منها إعاقة نموّها، والتضييق عليها في علاقاتها الخارجية السياسية والإقتصادية، مع تشويهها إعلاميا، ونشر الدعايات الكاذبة عنها، لكن إيران تمكنت بفضل حكمة قيادتها ووعي شعبها، من تجاوز تلك العقوبات، وتخطّي عقبات تأثيراتها السّلبية، فصنعت لنفسها مقاما مكينا، ثبّتها ضمن دول العالم الطموحة، لنيل مراتب عليا في مصاف الدّول المتقدمة، بعدما حققت استقرارا وأمنا داخليا، لم يكن من السّهل عليها إدراكه، لولا السياسة المتوازنة الحكيمة التي انتهجها النظام الإسلامي، ولو كان نظاما آخر بتعدّد أعراقه ومعتقداته، وما لقيه من مؤامرات استهدفته بكل رموزه، لما بقي صامدا عشرية واحدة من الزمن.
النظام الإسلامي الإيراني تجاوز شأنه الداخلي، بعد أن حقق فيه الإستقرار والأمن، وذهب إلى مساعدة الشعوب والدول الشقيقة المجاورة، من أجل تخليصها من مشاكلها التي صنعها لها أعداءها، وبالأخص أمريكا صانعة كل فوضى، وعدم استقرار في العالم، وما الإرهاب الغازي للعراق وسوريا، سوى صناعة نشرتها أجهزتها، من أجل استهداف إيران ومشروعها الإسلامي في خاتمة المطاف، لكن إيران أحسنت قراءة المخطط، وبادرت إلى محاربة داعش وهي في طور التأسيس، وإسقاطها مع قوى مقاومة وطنية في المنطقة، أفشلت بها مخططا أمريكا خطيرا.
لا أعتقد أن الدبلوماسية الإيرانية قد انتهجت من قبل أسلوب الرّدّ على أعدائها، بسياسة الردّ الظرفية التي وصفت به صحف عربية، القمّة الثلاثية التي جمعت بين الرئيس الإيراني (إبراهيم رئيسي)، والرئيسين الروسي (فلاديمير بوتين)، التركي (رجب طيب أردوغان)، على أنّها ردّ على قمّة (جدّة) التي جمعت الرئيس الأمريكي (جو بايدن) وعدد من قادة دول خليجية، من بينها السعودية والإمارات العربية(1)، وهي قمّة سبقت دعوات بتشكيل ناتو عربي لمواجهة إيران، أعلنها الملك الأردني (عبد الله الثاني)(2)، ذلك أن السّياسة الإيرانية عُرِفت منذ انتصار ثورة شعبها، وتأسيس نظامها باختيار شعبي لم يسبق له مثيل، بقيت متوازنة ثابتة، لم تتأثر بعامل ضرفي، دفعها إلى تعديل أو تغيير أهدافها المعلنة، من بداية عهدها الجديد إلى اليوم.
القمّة في طهران كانت لبحث الملف السوري، والخروج بنتيجة توافق كامل بين هذه الدّول الثلاثة، من أجل انهاء تواجد الإرهاب، الباقي في بعض مناطق الشمال السوري، كإدلب ومحيطها، والجنوب حيث لا تزال هناك جيوب إرهابية، تنفذ غاراتها الغادرة انطلاقا من أوكارها، وهؤلاء برعاية وحماية أمريكية وصهيونية، لم يخفيا عن المتابعين، منذ أن بدأت تلك المجاميع في تنفيذ أعمالها الاجرامية، فيما عُرّف بالثورة السورية، فمخرجات مؤتمر (أستانا) بقيت عالقة بلا تنفيذ، وما هو مطلوب اليوم، من هذه الدّول الراعية للملف السوري، أن تبذل جهدا حقيقيا لإنهاء إرهاب ترعاه أمريكا، بقاؤه على تلك الحال، ليس في صالح أحد من دول المنطقة، بما فيها تركيا حاضنته، وهو يخدم فقط المشروع الأمريكي الصهيوني، في عدم استقرار المنطقة، ويعطي للكيان الصهيوني عنصرا فوضويا، يخدم تطلّعها لمزيد من الهيمنة.
ولقد تعوّدت الدبلوماسية الأمريكية على إخفاء الحقائق، وتقديم أوهام بدلها للعالم، خصوصا إذا مُنِيَت بفشل ما، كما هو حاصل معها في تعاملها الفاشل مع إيران، وعوض أن تعترف بعجزها، وتعمل على اصلاح أخطائها، تذهب دائما إلى استعمال أسلوب على الهروب إلى الأمام، مدّعية أن إيران ذاهبة إلى تبعية روسيا، وهو استنتاج مثير للضحك، ومدعاة لرثاء حال سكان البيت الأبيض، أين وصل بهم الخيال الأجدب، في وصف السياسات التي تتناقض معهم بغير أوصافها.
قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية (نيد برايس) إنّ “إيران وحّدت الآن مصيرها مع عدد صغير من الدول التي لبست في البدء لبوس الحياد، لتدعم في نهاية المطاف الرئيس بوتين في حربه ضدّ أوكرانيا والشعب الأوكراني”. ونشرت الولايات المتّحدة مؤخراً معلومات استخبارية، مفادها أنّ مسؤولين روساً زاروا طهران مرتين على الأقلّ هذا الصيف، لتفقّد طائرات مسيّرة قتالية، تعتزم طهران تزويد الجيش الروسي بها، لتمكينه من التصدّي للعتاد الغربي الذي يتدفّق على أوكرانيا.(3)
التحذير الأمريكي الموجّه لإيران، من أجل سرعة العودة إلى الاتفاق النووي الذي أبرم سنة 2015، مفاده أن الهامش الزمني المتاح لإنقاذ الاتفاق النووي بات يقتصر على “بضعة أسابيع”، محذرة من أزمة إذا فشلت الجهود الدبلوماسية.(4)
توازن السياسة الخارجية الايرانية أثبت عكس الإدّعاءات الأمريكية، من كونها مائلة الى التبعية لروسيا، وامتناعها على التصويت لقرار يدين موسكو تدخلها في أوكرانيا، نابع عن وعي وإدراك، للأسباب التي دعت روسيا لاتخاذ قرار الدفاع عن حدودها، من جشع النّاتو وتمدّده إلى هناك، ومبدئيّة السياسة الإيرانية تفرض عليها أسلوبا قويّا، في التعامل مع الأحداث العالمية، بكثير من الإعتدال والحق، مراعاة لحقوق الدول الأخرى وشعوبها، خصوصا الشقيقة والصديقة منها، وهي مستعدة للتضحية من أجلها مهما كلّفها ذلك من ثمن، كما هي حال إيران والقضية الفلسطينية وقضايا التحرر العالمي، وأمريكا وكيانها الصهيوني، وحلفائهم من الدول الأوروبية والخليجية والعربية يدركون ذلك جيدا، جميعهم يجاري أمريكا في سياساتها العدوانية العاطلة وقراراتها الباطلة، ومع ذلك يضعون جميع آمالهم عليها، دون حساب للخسارة التي قد يُمنوْنَ بها معها، وهذا منتهى الغباء السياسي.
المراجع
1 – قمة طهران: هل يسعى بوتين وأردوغان ورئيسي “لتوسيع العلاقات العسكرية” بينهم؟- صحف عربية
https://www.bbc.com/arabic/inthepress-62223387
2 – الملك عبدالله: أؤيد إنشاء حلف “ناتو” شرق أوسطي
https://arabic.rt.com/middle_east/1366974-
3 –أمريكا تحذر إيران من التبعية لروسيا
https://www-akhbaralaan-net.cdn.ampproject.org/v/s/www.akhbaralaan.net/news/world/2022/07/21/
4 – أمريكا تحذر: أمام إيران بضعة أسابيع للعودة إلى الإتفاق النووي
https://thenewkhalij.news/article/252326/